كتبها: هاشم صالح
هل للشعر الحديث فلسفة يا ترى؟ أم أنه مجرد انقلاب شكلاني على الشعر القديم بأوزانه وقوافيه؟ ولكن هل يمكن أن يتغير الشكل من دون أن يتغير المضمون؟
حول هذه الأسئلة سوف تدور مقالتنا الحالية. وسوف نعتمد فيها على إضاءات الباحث جون ادوين جاكسون صاحب المؤلفات العديدة حول الموضوع. وهو أستاذ الأدب الفرنسي في جامعة بيرن بسويسرا، وأستاذ الأدب المقارن في جامعة جنيف. ويعد أحد الاختصاصيين المعدودين في مجال الشعر والحداثة الشعرية بشكل عام. وكان قد أصدر سابقا عدة كتب لافتة، نذكر من بينها: «الشعر ونقيضه: مقالة في الحداثة»، «مسألة الأنا: أحد جوانب الحداثة الشعرية الأوروبية»، «هيجانات الذات: دراسة العلاقة بين التحليل النفسي والأدب»، «بول سيلان: الكلام المضاد والمطلق الشعري»، «بودلير إلى ما لا نهاية».. إلخ.
في مقدمة الكتاب الأول يستشهد الناقد المذكور بمقطع للشاعر الألماني بول سيلان يقول فيه: القصيدة تميل نحو الآخر. إنها بحاجة إلى هذا الآخر. إنها تبحث عنه وتهب نفسها له، ما معنى قصيدة من دون متلقٍّ، من دون سامع؟ كل شيء، كل كائن إنساني يصبح بالنسبة للقصيدة التي تميل نحو الآخر شكلا من أشكال هذا الآخر. هل هناك من علاقة بين هذا الكلام وعبارة رامبو الشهيرة: الأنا هي آخر؟ وهل يعني ذلك أن الشاعر منقسم على نفسه بالضرورة؟ ما معنى الشعر من دون الجنون الداخلي والهستيريا الشعرية؟ يمكن أن نكثر من طرح الأسئلة إلى ما لا نهاية. على أي حال يرى الناقد جاكسون أن الغموض ليس سمة من جملة سمات أخرى للشعر الحديث. وإنما هو السمة الأساسية الملازمة له. فلا أحد يستطيع التحدث عن الشعر بعد عام 1800 وحتى اليوم إن لم يأخذ مسألة الغموض بعين الاعتبار. ينبغي أن نفهم ونقبل أن الشاعر، على عكس الآخرين، يأخذ كامل حريته عندما يستخدم اللغة. وعن هذه الحرية المطلقة ينتج الشعر. الشاعر ليس عالم اقتصاد ولا باحثا سياسيا يكتب خطابات آيديولوجية ويستخدم اللغة بشكل نفعي محض. الشاعر شخص مجاني، وعن هذه المجانية ينتج الشعر أيضا. والغموض حظ للغة وليس نقمة أو مصيبة كما يتوهم الجمهور الكريم. لماذا؟ لأن الغموض يتيح للغة أن تعبر عما لا تستطيع التعبير عنه في الحالة العادية. إنه يتيح لها التعبير عن عدة احتمالات معنوية لا احتمال واحد. وبالتالي فلغة الشعر غنية لا فقيرة. إنها إيحائية لا تقريرية.
ثم يضيف الباحث قائلا: صحيح أن الغموض ليس مقتصرا على الشعر الحديث. يكفي أن نقرأ بعض أشعار شكسبير لكي نتأكد من ذلك (ونحن العرب نقول: يكفي أن نقرأ شعر أبي تمام..). ولكن الفرق بين الشعر الكلاسيكي والشعر الحديث هو أن الغموض أصبح منتشرا بكثرة في هذا الأخير. لقد تحول إلى ظاهرة عامة ولم يعد استثناء كما كان عليه الحال في السابق. ويمكن القول إن جان جاك روسو هو أول من أحدث انقلابا في الآداب الأوروبية. فقد انتقل بها من المرحلة الكلاسيكية إلى المرحلة الرومانطيقية. وجعل من استكشاف الذات الداخلية محور الأدب. وهكذا لغم أساسات الكتابة التقليدية ودشن العصور الأدبية الحديثة. روسو لم يكن مفكرا عظيما فقط، وإنما كان أيضا كاتبا أديبا لا يشق له غبار. حتى فولتير كان يغار منه ويخشاه. وعندما يرخي لقلمه العنان كان يبلغ ذروة الكتابة الأدبية. ويرى البعض أنه كان مصابا بانفصام سيكولوجي داخلي، وإلا لما استطاع أن يجمع بين قمة الشعر وقمة الفكر في آن. فعادة إما أن تنبغ في هذا أو في ذاك، ولكن ليس في الاثنين معا. إنه أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء تماما كما قالوا عن التوحيدي أو المعري. ولكن هذه الأنا الداخلية التي كانت تبدو لروسو قريبة ومفهومة للوهلة الأولى سرعان ما تعكرت وأصبحت غامضة، ضبابية. وبالتالي فأصبح التعبير عنها هو الآخر ضبابيا معتما. فالشكل يساير المضمون. لا شعر جديدا بأثواب قديمة. وروسو نفسه يتحدث عن أعماقه الداخلية وكأنها متاهة. فالأنا، من يعرف الأنا؟ من يستطيع أن يقول إنه يعرف ذاته عن جد؟ من يتجرأ على النزول إلى أعماقه السفلية، اللهم إلا إذا كان بودلير وريلكه ونيتشه وبعض المجانين الآخرين.. من أيام سقراط، وتلك العبارة الشهيرة «اعرف نفسك بنفسك»، ونحن حائرون. نحن لا نعرف من نحن. ذلك أن استكشاف المهاوي السحيقة للذات الداخلية عملية عويصة ومعقدة. وقد تؤدي إلى معانٍ مختلفة لا إلى معنى واضح أحادي الجانب. من هنا سر غموض الأدب الحديث. فبما أنه متركز أساسا على استكشاف الذات وغياهبها ودهاليزها، فإنه لم يعد بإمكانه أن يكون واضحا كما كان عليه الحال أيام الأدب الكلاسيكي القديم.. وهكذا غاب المعنى الواضح أو تبخر في الهواء. وأصبح الشعر الحديث أداة لاستكشاف هذا المعنى الغائب المفقود.. أصبح يجري لاهثا وراء شيء ضاع. وفقد تلك اليقينية المطلقة والمطمئنة التي كان يتمتع بها أيام الشعر الكلاسيكي. من هنا سبب انزعاج الناس من الشعر الحديث. فهم يريدون معنى واضحا يقبضون عليه قبض اليد، ولكنهم لا يجدون شيئا. إنه يفلت من بين أصابعهم. إنهم يجدون أنفسهم أمام احتمالات معنوية عديدة. ضاعت «الطاسة»! وبما أنهم كانوا معتادين على وضوح الشعر الكلاسيكي ويقينيته، فإنهم يشعرون الآن بفقدان الأمان وانعدام الوزن. لهذا السبب تعرض الشعر الحديث في أوائل ظهوره لهجوم عنيف. وهذا ليس فقط في أوروبا. في سوريا كنا أحيانا نشتبك بالأيادي بين أنصار الشعر العمودي وأنصار الشعر الحر، كما يحقد بعضنا على بعض، أو ينظر بعضنا إلى بعض شزرا. فمحل الطمأنينة اليقينية حلت الحيرة والتساؤل والشك كسمة أساسية من سمات الشعر الحديث. وحل الغموض الواضح أو الوضوح الغامض، محل الوضوح الراسخ للمعنى الوحيد. وقد تحدث عن ذلك بشكل لا مباشر وبنوع من الحنين واللوعة الشاعر الكبير جيرار دونيرفال. يقول في بيته الشهير: أنا المعتم، أنا المظلم، أنا الأرمل الذي يستعصي على كل عزاء.. نعم لقد خسر الشاعر الحديث شيئا كبيرا، إذ انتقل من المرحلة الكلاسيكية إلى مرحلة الحداثة. خسر اليقين والطمأنينة والوضوح والعيش الرغيد. ووجد نفسه مقذوفا في خضم الضياع والمتاهات اللانهائية للحداثة. فالحداثة ليست خيرا كلها، أو قل ليست راحة ولا استقرارا. الحداثة ضياع، قلق، توتر، غثيان. لكن ما أعظم طعم الحرية! ما أجمل الخروج من سجن القوافي والأوزان! كم قيدت الإمكانيات التعبيرية للشاعر القديم. كم جعلته مصطنعا أحيانا ومزيفا ومرهقا يئن تحت وطأتها! إلخ، إلخ.. صحيح أن هذه الحرية قد تصبح عبئا علينا إن لم نعرف كيف نقف بها عند حدود معينة. فالحرية أيضا مسؤولية، وكذلك الشعر. لا تستطيع أن تقول كل شيء اللهم إلا إذا مارست الكتابة الأوتوماتيكية للسرياليين. فالشعر إذ يفقد المعنى الوحيد الموثوق يصبح مفتوحا على كل المعاني. وقد يضيع في متاهات اللامعاني.. من هنا ظهور نظريات العبث واللامعقول والعدمية والمجازات المستحيلة الشاذة التي يمتلئ بها الشعر الحديث. وقبل نيرفال احترق شاعر آخر بسبب فقدان الوحدة المعنوية هو: هولدرلين. واحترق شعراء آخرون ليس أقلهم بودلير، أو رامبو، أو فيرلين، أو مالارميه. وعن هذا الاحتراق نتج الشعر كأعظم ما يكون.
لكن لنوسع الإشكالية أكثر؛ لا يمكن أن نفهم ظاهرة الشعر الحديث في الغرب إلا إذا ربطناها بالمتغيرات الانقلابية التي طرأت على المجتمعات الأوروبية التقليدية بدءا من القرن التاسع عشر. فالمجتمع الصناعي الحديث وضع الفرد في حالة صعبة أو تناقضية. صحيح أن الحداثة حررت الفرد من قيود الماضي وأثقاله، ولكنها أدت إلى اغترابه واستلابه في عصر الصناعة والآلات التي تسحق الأنا والذاتية. لقد انتهى المجتمع الزراعي الفلاحي الجميل. انتهت البراءات الأولى والطبيعة البكر والمناظر الريفية التي لم يسحقها بعد بلدوزر التكنولوجيا. وهكذا حصل الطلاق بين الحلم الرائع للشعراء، والواقع المادي الخارجي التكنولوجي الذي لا يعبأ بهم ولا بمشاعرهم. ما علاقة التكنولوجيا والبلدوزرات بالمشاعر؟ إنها تسحقها. كم تألم بودلير بسبب ذلك؟ أو قل إن أحلامهم تكسرت على رصيف واقع مادي، بارد، لا يرحم. وربما لهذا السبب جن معظمهم، بل وانتحروا. فجيرار دو نيرفال شنق نفسه في ليلة ليلاء على عمود في ساحة الشاتليه وسط باريس. وبودلير مات في عز الشباب بحالة غير طبيعية (46 سنة). وهولدرلين جن تماما لمدة 40 سنة تقريبا. انظروا قصائد الجنون لهولدرلين: من أجمل ما يكون! كتبها قبل أن ينطفئ كليا عندما كان لا يزال في مرحلة مترجرجة بين العقل والجنون. وفيرلين غاص في الكحول حتى التقطوه من شارع السان ميشيل في الحي اللاتيني.. كلهم دفعوا ثمن الحداثة أو مغامرة الحداثة باهظا.
ينبغي أن نعترف بالحقيقة: لقد حصل تناقض مروع أو قاتل بين الأحلام الشعرية الوردية التي كانت تسكنهم والحضارة التكنولوجية الصاعدة التي لا تعبأ بالعواطف والمشاعر. حقا إنها حضارة معادية للشعر والحلم. ألم يتحدث أحمد عبد المعطي حجازي عن «مدينة بلا قلب»؟ ماذا يستطيع أن يفعل الشعر أمام الآلات الزاحفة؟ ألم يتحدث هيدغر عن انحسار براءات الريفية أمام هجمة التكنولوجيا؟ عالم بأسره يموت وينقرض أمام أعيننا عالم المراعي والأغنام وأشجار اللوز والبرتقال.. هذا ناهيك عن السواقي والأنهار والليالي المقمرة وقصص الغرام.. كل هذا انتهى بعد القرن التاسع عشر. وهكذا تحول الشاعر إلى شخص مستلب أو غريب وسط ضوضاء هذه الحضارة الصناعية والتكنولوجية وصخبها.. ألم يتحدثوا عندئذ عن موت الشعر؟ لقد أصبح الشاعر مقتلعا من جذوره، غريبا عن نفسه، عاجزا عن التصالح مع ذاته ومع العالم الخارجي في آن معا.. فماذا يفعل إذن؟ يكتب الشعر، يستمر في كتابة الشعر.. لماذا؟ للشهادة على هذا الانهيار: انهيار عالم بأسره وصعود عالم جديد على أنقاضه. هذه هي الحالة المثالية لكتابة الشعر. ما أجمل أن تكون متصادما مع العالم وعاجزا عن التصالح مع ذاتك. عندئذ ينفجر الشعر من تلقاء ذاته.
عن جريدة الشرق الأوسط.