لمْ تَخْلُ السجونُ من ضيفٍ يحلُّ بها، أو مقيمٍ يعيش بين حناياها، ولا يخرجه منها إلا الموت!
ومن المعلوم أن السجنَ يغصّ بأصناف شتى من البشر، وأن السجن قد يحوي البريءَ المظلومَ، ويحوي السارقَ والقاتل والمجرمَ وقاطعَ الطريق..
وكم من مجرم يدَّعي أنه بريء! وكم من بريءٍ أصبح يُسَمَّى مجرماً، وعلى كل حال:
ما يدخل السجنَ إنسانُ فتسألُه ما بال سجنك؟ إلا قال: مظلومُ!
كما أن السجن قد يحوي بين جدرانه الرسولَ والنبيَّ، والعالم والأميَّ, والكاتب والشاعر, والتقيَّ والفاجر..
وما أكثر الشعراءَ الذين حُبسوا! وما أكثر الأشعار التي قيلت في السجون! فبددت بنور توهجها ظلامَ السجون الدامسَ، وتنسمت قوافي تلك الأشعار نسائمَ الحرية، وخرجت من غياهب السجون ودياجيرها، لتصبح تاجاً مرصَّعا على هامة الخلود، وقلادةً حرةً في صدر الزمان.
ويبقى العجب: كيف تضم حجرةٌ مظلمة صغيرة بحوراً لُجِّيَّةً من الشعر، وجبالا تطاول عَنان السماء، من العلماء والحكماء! ولاغروَ ولا عجب، فالسجنُ الذي ضمَّ نبياً ورسولاً، يضم عالماً وشاعرا وحكيما.
ويظل السجينُ على أمل اللقاء مع الأهل والأحبة، فالذي ردَّ يوسف إلى أبيه، وأعزَّه - وهو في سجنه - قادرٌ على أن يجمعَ السجين بأهله، ويلمَّ الشملَ، ما لم تعاجلْه المنيةُ وهو في أعماق الأرض، فينتقل من أعماق زنزانته، ويوضع في أعماق الثرى داخل قبره! ورحم الله من قال:
وعسى الذي أهدى ليوسُفَ أهلَه وأعزَّه في السجنِ وهْوَ أسيرُ
أنْ يستجيبَ لنا فيجمعَ شملنا واللهُ ربُّ العالمين قديرُ
ونحن عندما نتحدث عن الشعراءِ وقصائدهم التي دبَّجوها في غياهب السجون، لا بد أن نتذكر جميعاً قصيدةَ أبي فراس الحمْداني الرائعةَ، التي قالها عندما كان أسيراً, وسمعَ حمامةً تنوح على شجرة عالية بقربه، فأراد منها أن تشاركَه في أحزانه، وتحملَ عنه بعضَ الهموم، فقال يخاطبها، وهو في سجنه:
أقولُ وقد ناحت بقربي حمامةٌ أيا جارتا, هل بات حالك حالي؟[1]
أتحملُ محزونَ الفؤادِ قوادمٌ على غصُنٍ نائي المسافةِ عالِ
أَجارتَنا، ما أنصف الدهرُ بيننا تعالَي أقاسمْكِ الهمومَ تعالِي
تعالَي ترَيْ روحاً لديّ ضعيفةً تردَّدُ في جسمٍ يعذَّبُ بالِ
أيضحكُ مأسُورٌ وتبكيْ طَليقةٌ؟ ويسكُت محزونٌ ويندبُ سالِ؟
لقد كنتُ أولى منكِ بالدَّمعِ مقلةً ولكنّ دمعِي في الحوادثِ غال[2]
وكم من أبياتٍ أخرجت صاحبَها من السجن! وما ذلك إلا لرقتها وعذوبتها، فترى القوافيَ فيها تبكي، ودموعَ سامعها تهمي، وقلبه يذوب ليناً وعطفاً، ومعلومةٌ تلك الأبياتُ التي جعلت الشاعر الحطيئةَ يخرج من سجنه، والتي قالها لسيدنا عمرَ بنِ الخطاب - رضي الله عنه - عندما أودعه في السجن:
ماذا تقولُ لأفراخٍ بذي مَرَخٍ؟ زغبِ الحواصلِ لا ماءٌ ولا شجرُ؟
ألقيتَ كاسِبَهُم في قعرِ مظلمةٍ فاغفر, عليك سلامُ اللهِ يا عُمَرُ
أنت الإمامُ الذي مِن بَعد صاحبِهِ ألقتْ إليكَ مقاليدَ النُّهى البشَرُ
لم يؤْثروك بها إذ قدَّموكَ لها لكِنْ لأنفسِهم كانتْ بكَ الإثرُ
فامننْ على صبيةٍ في الرملِ مَسكنُهُم بين الأباطحِ يغشاهمْ بها القَدرُ
أهلي فداؤكَ، كم بينيْ وبينهمُ مِن عرضِ داويةٍ يعمَى بها الخبرُ!
فبكى عمرُ رضي الله عنه, وأخرجه من السجن، ثم دعاه فهدّدَه بقطع لسانه إنْ عاد يهجو أحداً[3].
كما "حُكي أن الحجاجَ حبس رجلاً في حبسه ظلماً، فكتب إليه رُقعةً فيها: قد مضى من بؤسنا أيامٌ ومن نعيمك أيامٌ، والموعدُ القيامة، والسجنُ جهنمُ، والحاكمُ لا يحتاج إلى بيِّنة، وكتب في آخرها:
ستعلمُ - يانَؤومُ - إذا التقَينا غداً عِندَ الإلهِ مَنِ الظَّلُومُ؟
أما واللهِ إن الظُّلمَ لؤمٌ وما زال الظلومُ هوَ المَلومُ
سينقطعُ التلذُّذُ عن أُناسٍ أدامُوه, وينقطعُ النّعيمُ
إلى ديَّانِ يومِ الدِّينِ نَمضي وعندَ الله تجتمعُ الخصومُ"[4]
والشاعر ابنُ عمارٍ عندما حبسه المعتمدُ بنُ عباد, كتب إليه الكثيرَ من قصائد الاستعطاف، وطلبِ العفو، وإليك هذه الأبياتِ من آخر قصيدة بعث بها إليه كما يقال:
سجاياكَ إنْ عافيتَ أندَى وأَسْمَحُ وعذرك إن عاقبت أولى وأوضحُ
وإن كان بين الخطّتينِ مَزيةٌ فأنت مِن الأَدنى إلى الله أجنحُ
وماذا عسَى الأعْداء أنْ يتزيدوا سِوى أنَّ ذنبي ثابتٌ ومُصَحَّحُ
وإنَّ رجائي أنَّ عندكَ غيرَ ما يخوضُ عدوِّيْ اليومَ فيهِ ويَمرَحُ
أقِلْنِي بما بيني وبينِكَ من رِضىً لهُ نَحْوَ رُوح اللهِ بابٌ مُفتَّحُ
ولا تلتفتْ رأيَ الوشاةِ وقولَهُمْ فكلُّ إناءٍ بالّذي فيه يرْشحُ
ألاَ إنّ بطشاً للمؤيَّد يُرتَجى ولكنَّ حلماً للمؤيّدِ يرجحُ
سلامٌ عليه كيفَ دار بهِ الهَوى إليَّ فيدنوْ أوْ عليّ فينزحُ[5]
ولكنْ، إذا كان الحطيئةُ قد استطاع أن يُبْكيَ سيدَنا عمرَ بتلك الأبيات، فإن ابنَ عمار لم يفلح في نيل رضا المعتمد، بل شجَّ رأسه بفأس وقضى عليه، وكأنّ المعتمد ما نسي هجاءَ الشاعر له ولزوجته وكما قيل:
جراحاتُ السِّنانِ لها التِئامٌ ولا يلْتَامُ ما جرحَ اللِّسانُ
وقال آخر: والسجين في سجنه، كلما هبت رياحٌ من ناحية بلاده يذوب حنيناً، وكلما لاح له خيالُ ركبٍ مُيَمِّمٍ وجهَهُ شطرَ بلده, كلما بعث هواه مع هذا الركبِ.
وقد أورد البغدادي في خزانته أبياتَ شعرٍ لجَعْفَر بن عُلْبَة الحارِثِيّ قالها في سجنه، وأوردها أبو تمام في أول الحماسة، وهي في غاية الروعة:
هَوايَ مع الرَّكْبِ اليَمانِينَ مُصْعِدٌ جَنِيبٌ وجُثْمانِي بمَكَّةَ مُوثَقُ
عَجِبْتُ لِمَسْراها وأَنَّى تَخَلصَتْ إِليَّ، وبابُ السَّجْنِ دُونِي مُغْلَقُ
أَلَمَّتْ فحَيَّتْ ثُم قامَتْ فَوَدَّعَتْ فَلمَّا تَوَلَّتْ كادَتِ النَّفْسُ تَزْهَقُ
فلا تَحْسَبِي أَنِّي تَخَشَّعْتُ بَعْدَكُم ْبِشَيْءٍ، ولا أَنِّي مِنَ المَوْتِ أَفْرَقُ
ولا أَنَّ نَفْسِي يَزْدَهِيها وَعِيدُكُمْ ولا أَنَّنِي بالمَشْي في القَيْدِ أَخْرَقُ
ولكنْ عَرَتْنِي مِن هَواكِ صَبابَةٌ كما كنتُ أَلْقى مِنْكِ إِذْ أَنا مُطْلَقُ
أسجنٌ وقيدٌ واغترابٌ وعَبرةٌ وفقدُ حبيبٍ؟ إنّ ذاك عظيمُ
وإنّ امرأً تبقى مواثيقُ عهدِه، على كلِّ هذا، إنه لكَريمُ[6]
وعندما حُبس عبدُ الملك بنُ إدريس الجزيريُّ الكاتبُ الشاعرُ، صدرت عنه وهو في السجن قصيدةٌ له في الآداب والسنة، كتبَ بها إلى بنيه (أو إلى ابنه عبدِ الرحمن)، مطلعُها:
ألْوَى بعزمِ تجلُّدي وتصبُّري نأيُ الأحبّةِ واعتيادُ تذكُّرِي
ويذكر فيها كيف فقد صبرَه، وذهب سرورُه وتلذُّذُهُ بالعيش،ويتشوقُ إلى ابنِه الأصغرِ، ويتذكر ساعة فراقه, فيقول:
عجباً لقلبي يومَ راعتْنا النّوى ودَنا وداعُكَ كيفَ لم يتفطرِ؟!
ما خِلْتُني أبقى خلافَك ساعةً لولا السكونُ إلى أخيكَ الأكبَرِ[7]
وها هو أيضاً ضابئُ البرمجيُّ وهو في سجنه يقول متشوقاً:
ومَن يكُ أمسَى بالمدينةِ رَحْلُهٌ فإني وقياراً بها لغَريبُ
وما عاجلاتُ الطير تُدني مِن الفتى نجاحاً ولا عن ريثهِنّ يَخيبُ
ورُبَّ أمورٍ لا تضيركَ ضيرةً وللقلبِ مِن مَخْشاتِهنَّ وَجِيبُ
ولاخيرَ فيمن لا يوطِّن نفسَهُ على نائباتِ الدّهرِ حينَ تنوبُ[8]
وأما صالحُ ابنُ عبد القدوس، فإنه يشكو حاله إلى الله، ويرى نفسه في سجنه لا حياً ولا ميْتاً:
إلى الله أشكوْ؛ إنّه موضعُ الشّكوَى وفي يدِهِ كشْفُ المُصيبةِ والبَلْوَى
خرجْنا مِن الدُّنيا ونحنُ مِنَ اهْلِها فما نحنُ بالأحْياءِ فيها ولاَ المَوتى
إذا ما أتانا مُخبرٌ عن حديثِها فرحْنا وقُلنا: جاءَ هذا مِن الدُّنيا!
وتُعجبنا الرُّؤْيا فجُلُّ حديثِنا - إذا نحنُ أصبَحْنا - الحدِيثُ عنِ الرُّؤيا
فإنْ حسنتْ لم تأتِ عجلَى وأبطأتْ وإن قبحتْ لم تحتبِسْ وأتَتْ عجلَى![9]
وأحد الشعراء رأى في السجن مدى حاجة الناس إليه، وجعل نفسه البدرَ المفتَقَدَ في الليلة الظلماء، ولكن كيف ذلك؟
ويأتي الجواب: بأن الناس سيعْلمون قوّته ومكانته عندما تدور رحى الحرب، وتطحن الحربُ الزبونُ الكُماةَ، أمّا فارسُها الْمُهابُ، وليثُها الهدَّارُ، فإنه قابعٌ في السجن, لذلك، الشاعرُ العَرْجيُّ وهو أشعر بني أمية، عندما هجا إبراهيم بن هشام المخزومي، وأخذه وحبسه. قال وهو في السجن:
كأَنِّيَ لم أَكُنْ فيهمْ وَسِيطاً ولم تَكُ نِسْبَتِي في آلِ عَمْرِو
أَضاعُوني وأَيَّ فَتىً أَضاعُوا لِيَوْمِ كَرِيهَةٍ وسِدَادِ ثَغْر[10]
وأما ابنُ زيدون فإنه عندما كان في نكبته، وأُودِع في السجن، أتى بصوَرٍ بديعة، فهو لا يرى في نفسه عندما سُجن سوى قمرٍ قد أصابه الخسوفُ, أو شمسٍ قد ألمَّ بها الكسوفُ، وهو نجم إلا أنه في الأرض لا في السماء، يقول:
هل الرّياحُ بنجمِ الأرضِ عاصفةٌ أمِ الكسوفُ لغَيرِ الشمسِ والقمرِ؟
إن طال في السِّجنِ إيداعيْ فلا عجبٌ قدْ يوْدعُ الجفن حدّ الصارمِ الذّكَرِ[11]
وإذا كان ابنُ زيدون قد صوَّر نفسه في سجنه بدراً مخسوفاً، وسيفا صارماً مغمَداً، فإن بعض ولد نهيك بن أساف الأنصاري قد جعل من الحكم بن المطلب المخزوميَّ شيئاً آخرَ، فعندما حُبس رأى أن الجود والكرم قد حُبسا، وأن المعروف قد أصبح نزيلَ السجن، ورأى أنّ هذا البحر يفيض رغم القيود حتى يكاد يغرق زائريه، قال:
خليليَّ إنّ الجودَ في السجنِ فابكِيا على الجُودِ إذْ شُدَّتْ عليهِ مرافِقُهْ
تَرى عارضَ المعروفِ في كلِّ ليلةٍِ وكلِّ ضُحًى يستنُّ في السجنِ بارِقُهْ
إذا صاحَ كبلاه طفا فيضُ بحرِهِ لزوَّاره حتى تُرامَ غرائقُهْ[12]
وسُجن مروانُ بنُ عبد الرحمن الملقبُ بالطليق، وكان عمرُه ست عشرة سنة، وطال سجنه إذ مكث في السجن ستَّ عشرة سنة أخرى، فما كان منه إلاّ أن وصف السجن بقوله:
في منزل كالليلِ أسودَ فاحمٍ داجي النواحي، مظلمِ الأشباجِ
يسودُّ والزهراءُ تشرقُ حولَهُ كالحبرِ أُودعَ في دَوَاةِ العاجِ[13]
وقد يصور الشاعر نفسه وهو في سجنه سيفاً إلا أنه مغمَدٌ, وهزبراً في عرينه، ويسلي نفسه بكثير من التشبيهات والصور البيانية، مما حدا بالبيهقي أن يجعلها من محاسن الحبس، في كتابه (المحاسن والمساوئ) فها هو عليُّ بنُ الجهم يقول عندما حبس:
قالوا: حُبستَ، فقلتُ: ليس بضائرِيْ حبسيْ، وأيُّ مهنَّدٍ لا يُغمَدُ؟!
أوَ ما رأيتَ اللَّيثَ يأْلفُ غِيْلَهُ كبراً، وأوباشَ السِّباعِ تردَّدُ؟
والبدرُ يُدركهُ السِّرارُ فتنجلِي أيّامهُ وكأنَّهُ متجدِّدُ
والنَّارُ في أحجارها مَخبُوءَةٌ لا تُصطلى ما لمْ تُثرْها الأزندُ
ولكلِّ حالٍ معْقبٌ ولربَّما أجْلَى لكَ المكروهُ عمّا تَحمدُ
لا يؤْيِسنّكَ مِن تفرّجِ كُرْبةٍ خطبٌ أتاكَ به الزّمانُ الأَنْكدُ
صبراً فإنّ اليومَ يتْبعهُ غدٌ ويدُ الخليفةِ لا تطاولها يَدُ
والحبسُ - ما لمْ تغْشَهُ لدَنِيّةٍ تزريْ - فنعم المنزلُ المتورَّدُ
إلاَّ أن عاصمَ بنَ محمد الكاتب، لما حبسه أحمدُ بن عبد العزيز بتغير حمولة له, عارض ابن الجهم في قصيدة ذكرت مساوئ السجن، وأتى فيها بنقيض ما قاله ابنُ الجهم:
قالت: حُبست، فقلت: خطبٌ أنكدُ أنحَى عليّ به الزمانُ المرصدُ
لو كنتُ حراً كانَ سِربي مطلَقاً ما كنتُ أُؤخَذُ عنوةً وأُقيّدُ
أوْ كنتُ كالسَّيفِ المهنَّدِ لم أكنْ وقتَ الشّديدةِ والكَريهةِ أُغمَدُ
أوْ كنتُ كاللّيث الهَصُور لَما رعَتْ فيّ الذئابُ وجذوتيْ تَتَوقّدُ
مَن قال: إنّ الحبسَ بيتُ كَرامةٍ فمُكاشرٌ في قولهِ مُتَجَلِّدُ
ما الحبسُ إلاّ بيتُ كلِّ مَهَانَةٍ ومَذلّةٍ ومكارِهٍ ما تنفَدُ
إن زارَني فيه العدوُّ فشامِتٌ يُبدي التوجُّعَ تارَةً ويفنّدُ
أو زارني فيه الصَّديقُ فمُوْجعٌ يذرِي الدُّموعَ بزفرةٍ تتَردَّدُ
يَكفِيك أنّ الحبسَ بيتٌ لا تَرى أحداً عليهِ مِنَ الخلائقِ يُحسَدُ!
عِشنا بخيرٍ برهةً فكَبَا بنا ريبُ الزّمان وصَرفُه المتردِّدُ
قصرتْ خطاي وما كبرتُ وإنما قصرتْ لأني في الحَدِيدِ مصفَّدُ
في مُطْبقٍ فيه النهارُ مُشاكِلٌ للَّيلِ والظُّلُماتِ فيهِ سَرمَدُ
تمضي اللياليْ لا أذوق لرَقدةٍ طَعْماً.. فكيفَ حياةُ مَن لا يَرقُدُ
فتقولُ لي عينيْ: إلى كمْ أسهرتْ؟ ويقولُ لي قلبيْ: إلى كمْ أكمدُ؟
وغِذايَ بعْدَ الصّوم ماءٌ مفردٌ كمْ عيشُ من يغذُوْهُ ماءٌ مفردُ؟!
وإذا نهضتُ إلى الصلاةِ تهجُّراً جذبتْ قيوديْ ركبتيَّ فأَسْجُدُ
فإلى متى هذا الشقاءُ مؤكَّدٌ؟ وإلى متى هذا البلاءُ مجدَّدُ؟
يا ربِّ، فارحمْ غُربتي وَتَلاَفَنِيْ إنّيْ غريبٌ مفرَدُ مُتلدّدُ[14]
وكثيراً ما يُسجن إنسان لا يقرض الشعر، فيهيئ الله له من الشعراء من يواسيه, ويسليه في سجنه فالبحتريُّ عندما سُجن محمد بنُ يوسفَ ذكره بنبي الله يوسفَ عليه السلام، وأن صبره جعل منه ملكاً، كما ذكره أن الذهب لا يصفو إلا بالسبك، والدنيا متقلبة، والأيام دول:
وما هذه الأيامُ إلاّ مَنازلٌ فمِن مَنْزِلٍ رحْبٍ إلى منزِلٍ ضَنْكِ
وقدْ دهَمتْكَ الحادثاتُ وإنّما صفا الذّهبُ الإبرِيزُ قَبْلَكَ بالسّبْكِ
أمَا في نبي الله يُوسفَ أُسْوَةٌ لمثِلكَ محبوسٌ عنِ الظُّلْمِ والإفْكِ
أقامَ جميلَ الصّبرِ في السِّجن بُرهةً فآلَ بهِ الصّبرُ الجميلُ إلى المُلْكِ[15]
وكذلك يزيدُ بن المهلب، الذي كان جواداً، وكان حاتمَ عصره. و"قيل: إن الحجاجَ حبسه على خراجٍ وجب عليه، مقدارُه مائةُ ألف درهم، فجُمعت له، وهو في السجن، فجاءه الفرزدقُ يزوره، فقال للحاجب: استأذن لي عليه، فقال: إنه في مكان لا يمكن الدخول عليه فيه، فقال الفرزدق: إنما أتيت متوجِّعاً لما فيه، ولم آتِ ممتدحاً، فأذن له، فلما أبصره قال:
أبا خالدٍ ضاقتْ خراسانُ بعدَكمْ وقالَ ذَوُو الحاجاتِ أينَ يزيدُ؟
فما قطرتْ بالشرقِ بعدكَ قطرةٌ ولا اخضرَّ بالمروينِ بعدكَ عُودُ
وما لسرورٍ بعدَ عزِّكَ بَهجةٌ وما لجوادٍ بعدَ جُودِك جُودُ"[16]
ونحن عندما ننتقل إلى شعراء العصر الحديث فإننا قد نراهم، أبدعوا إبداعاً رائعاً وهم في سجونهم, وكتبوا روائع شعريةً ليس لها نظير.
وممن كتب وأبدع في هذا المجال الدكتورُ يوسفُ القرضاوي، الذي ألقى قصيدة نونية بمناجاة نظمها ليلة 27 رمضان عام 1369هـ، 1949م بمعتقل الطور، وذلك عندما احتفل المعتقلون بهذه المناسبة، منها:
يا ربِّ، إنّ الطغاةَ استكبروا وبغَوا بغْيَ الذئابِ على قطعانِ حملانِ
يا ربِّ، كمْ يوسفٍ فينا نقيِّ يدٍ دانُوْهُ بالسّجنِ والقاضي هوَ الجاني
يا ربِّ، كم من صبيٍّ صفَّدوا.. فمَضَى يبكِي كضفدعةٍ في نابِ ثُعبانِ
يا ربِّ، كم أسرةٍ باتتْ مشرَّدةً تشكُوْ تجبُّرَ فرعونٍ وهامانِ
وله فيها بيتٌ جميلٌ يقول فيه:
والليثُ لنْ تحنيَ الأقفاصُ هامتَهُ وإنْ تحكّمَ فيهِ أَلْفُ سَجَّانِ
وليس لأحدٍ أن ينسى تلك القصيدةَ, قصيدةَ الشاعر هاشم الرفاعي (رسالةٌ في ليلة التنفيذ) التي يخاطب فيها أباه، ويصوِّر السجن تصويراً عجيباً، بليله الحالك، وهدوئه المخيف، وصمته الذي يقطعه رنينُ السلاسل:
أبتاهُ، ماذا قد يخطُّ بَناني؟ والحبلُ والجلاّدُ منتظرانِ
هذا الكتابُ إليكَ مِن زنزانةٍ مَقرُورةٍ صخريّةِ الجُدرانِ
لمْ تبقَ إلاّ ليلةٌ أحْيَا بِها وأحسُّ أنّ ظلامها أكفاني
ستمرُّ - يا أبتاهُ - لستُ أشكُّ في هذا، وتحمِلُ بَعدها جُثماني
الليلُ مِن حوْلِي هدوءٌ قاتلٌ والذّكرياتُ تمورُ في وجداني
ويهدُّني ألَمي، فأَنْشُدُ راحتي في بضعِ آياتٍ مِنَ القُرآنِ
والنّفْسُ بين جوانحي شفّافةٌ دَبَّ الخضوع بِها فهزّ كياني
شكراً لهم، أنا لا أريدُ طعامَهمْ فلْيرفعُوهُ، فلستُ بالجوعانِ
هذا الطعامُ المرُّ ما صنعَتْهٌ لي أمّي، ولا وضعُوه فوقَ خوَانِ
كلاّ، ولمْ يشهدْهُ - يا أبتي - معِي أَخَوانِ لي جاءَاهُ يسْتَبِقانِ
مَدُّوا إليّ بهِ يدًا مصبُوغةً بدَمِي، وهذِي غايَةٌ الإحسانِ
والصَّمتُ يقطَعُهُ رنينُ سلاسلٍ عبثتْ بهنّ أصابعُ السّجَّانِ
وأختم قصائد غياهب السجون بأبياتٍ عن الخروج منها إلى نور الحرّية.. في كلماتٍ للشاعر الإسلامي محمد محمود الزبيري - يرحمه الله -:
خَرَجْنا مِن السِّجْن شُمَّ الأُنُوفِ كما تخرُجُ الأُسْدُ مِن غابِها
نَمُرُّ على شَفَرَاتِ السّيوفِ ونأتِي المنيّةَ مِن بابِها
ونأْبَى الحياةَ إذَا دُنِّسَتْ بِعَسْفِ الطُّغاةِ وإرهابِها
ونحتقِرُ الحادثاتِ الكِبارَ إذا اعترَضَتْنَا بأَتْعَابِها
ونعلَمٌ أنّ القَضا واقعٌ وأنّ الأُمُورَ بأَسْبابِها
سَتعلمُ أمّتُنا أنّنا ركبْنا الخطوبَ حناناً بِها
فإنْ نحنُ فزْنا فيا طالَما تذلُّ الصِّعابُ لطلاّبِها
وإنْ نلْقَ حتفاً فيا حبّذا ال مَنايا تَجِيءُ لخطّابِها
وهكذا، وفي نهاية المطاف, نكون قد شاركنا الشعراءَ في سجونهم، وعانينا بعض ما عانَوا، ورأينا أن من إحدى حسنات السجون أنها تخرج إلينا، من بين جدرانها ومن ثنايا ظلامها البهيم، قصائدَ باقيةً، مشبوبةً بصدق العاطفة ورصانة التعبير.
ــــــــــــــــــــ
[1] المشهور: ( هل تشعرين بحالي)، ولكن هذه رواية ابن خالويه.
[2] ديوان الأمير أبي فراس الحمداني/ تحقيق وشرح: د محمد ألتونجي، دمشق، 1408هـ، ص 246- 147.
[3] بهجة المجالس وأنس المجالس/ ابن عبد البر، باب في السجن، 1/194، وانظرها في كتاب: نوادر الحطيئة/ محمد إبراهيم سليم، مصر: دار الطلائع، ص 39.
[4] المستطرف في كل فن مستظرف/ شهاب الدين محمد بن أحمد أبو الفتح الأبشيهي/ ط3، دار صادر، ص 147.
[5] في الشعر العربي الأندلسي والمغربي/ د. علي دياب، منشورات جامعة دمشق، 1416هـ، ص 178.
[6] بهجة المجالس وأنس المجالس: 1/194.
[7] تاريخ الأدب الأندلسي (عصر سيادة قرطبة)/ إحسان عباس، 1960م، بيروت: دار الثقافة، 1/81.
[8] الكامل في اللغة والأدب/ المبرد، باب لضابئ البرمجي وهو في السجن، 1/85.
[9] معجم الأدباء/ ياقوت الحموي، 1/121.
[10] الشعر والشعراء، ابن قتيبة الدينوري، باب عروة بن أذينة، 1/125.
[11] إعتاب الكتاب/ ابن الأبار، 1/46.
[12] ربيع الأبرار/ الزمخشري، 1/83.
[13] تاريخ الأدب الأندلسي (عصر سيادة قرطبة): 1/79.
[14] المحاسن والمساوئ/ إبراهيم البيهقي, باب مساوئ من سخط عليه وحبس، 1/228. وانظر أبيات ابن الجهم في المستطرف في كل فن مستظرف: ص 414.
[15] المستطرف في كل فن مستظرف: ص 414.
[16] المستطرف في كل فن مستظرف: ص 214.
رابط الموضوع من مصدره: https://www.alukah.net/literature_language/0/5179/#ixzz5vP8gnUBu