النانه الرشيد ـ مخيم بوجدور (جنوبي الجزائر)- “مورينيوز”- ابتهلت بنت الكنتي أيام التحضير لزفاف ابنتها الوحيدة، و تضرعت إلى الله أن يهب مخيمها بردا و سلاما من حر الصيف الشديد يوم العرس و ليلته، فمن غير العادة أن يتزوج الناس بمخيمنا في فصل الصيف، لما في ذلك من مشقة و عذاب. و الزيجات التي تمت شهور الحر معروفة و كثيرا ما تكون حديث العوائل و مضرب الأمثال، إما في صعوباتها أو كيفية تخطي ذلك .. و تبقى مشكلة ندرة المياه و العجز عن تبريد القدر الكافي منها لسقاية المدعويين، وانعدام التكييف، خاصة أمام الضرورة القصوى لبناء الخيمة العملاقة، الكفيلة بجمع كل الوافدين..
يتم عقد القران بإجراءات إدارية مُحكمة، و من غير الممكن تجاوز قاضي الدائرة ” المخيم ” العامل بها، مهما حدث، فلا مكان بين الصحراويين للزواج العرفي أو السري حتى، كل شئ يتم بإشراف السلطات المحلية.. و جرت العادة أن تجري مراسيم عقد الزواج نهارا، ما بين ضحى اليوم و قيلولته. و على أسرتي العريسين الجديدين الإلتزام بوثيقة ضبط صادرة عن وزارة الداخلية، تنص بنودها الأساسية على تحريم الفرق الموسيقية الصاخبة ليلا، و قوافل السيارات و ما يصاحبها من “تفحيط”، و بعض مظاهر البذخ الأخرى، و لضمان تحقيق كل الشروط و فرضها، يتوجب على الأسرتين تسليم مسؤولة الحي، مبلغا ماليا، يبقى رهنا إلى حين إنتهاء فترة العرس. المحددة بأربع و عشرين ساعة فقط، فإن حدث أي تجاوز أو خرق لبنود الوثيقة، تصادر الجهات المعنية مبلغ الضريبة النقدي، و تتولاها مؤسسات كالشرطة و القضاء و الإدارة العامة للدائرة طبقا لنص محدد كذلك، و إن لم يحدث أي تجاوز يعود المبلغ المالي لأصحابه صباح اليوم الموالي .
ولج القاضي محمد محمود ولد الصالح منزل جيران أهل العروس، أعد صالونه لجلسة عقد القران، خفتت أصوات النساء، و شردت الأذهان و أصغت الآذان لزغردة إتمام الزواج المنتظر، و ما إن جلس القاضي البشوش، و هم بفتح حقيبة وثائقه، حتى دخلت مسؤولة الحي، تسأل عن الضريبة المعلقة. كانت أغليلة صارمة جدا، جلست قرب القاضي، كأنها تفرض سلطة القانون عليه أيضا، فقد هم وكيل العريس، و هو شيخ وقور مهاب، وجيه بمخيمه، معروف بشهامته و مروءته، بإقناع المسؤولة بكونه يضمن عدم خرق النظام و أنه كفيل بدفع الغرامة إذا ما حدث أي شئ ، لكنها رفضت رفضا قاطعا، مصرة على تطبيق نص الوثيقة بحذافيره، و أنه مثل غيره من المواطنيبن، مهما كانت معرفتها به و تأكدها من صدقه.
انصاع الجميع لضوابط أغليلة الصارمة، و انصاعوا أيضا لقرار القاضي، بضرورة سماعه بنفسه موافقة الولي المباشر للعروس، و إسم الوكيل الذي عينه بدلا عنه ، رغم جل القرائن المقدمة له، فقد كان عمها مريضا مقعدا. بعد أن تم كل شئ، كانت أغليلة مزغردة الحي، و صاحبة إعلان إتمام الزواج، بينما تم الدعاء لكل من ساهم في الجمع بين إبني شهيدين، فقد كان فقد العروسين والديهما في الحرب و هما بعد صبية، و حالة اليتم المبكر يجمعهما .
مسخ اللجوء بعض العادات الصحراوية الأصيلة، و منها ما سقط نهائيا، لم تعد العروس تزف بالطريقة التي عهدها الأسلاف و استمرت إلى عهد قريب، لم يعد يحضر الزفة غير صديقات مقربات جدا، بعيدا عن الأنظار، و لم تعد ” خيمة الرگ ” و هي المكان المخصص للقاء العروسين و من يحضر معهما، و تعتبر مكان للهو و الطرب طيلة فترة العرس، لم تعد موجودة، بل أصبح لكل عريسين رؤيتهما في اختيار المكان، بل منهم من أصبح يختار غرف الفنادق بمدينة تندوف . لم تعد العروس ترتدي لباس عرسها المجلوب هدية من العريس، فقد كانت العادة أن تضم الحقائب المنتقاة لملابسها، ملحفة من النيلة و أخرى بيضاء صقيلة، هما لباس العروس الرسمي، و من عاداتنا السابقة أن تشرف نساء من قريباتها و صديقات والدتها المخلصات على زينتها و إرتدائها ثياب الزفاف المميزة.. إندثر كل ذلك، و أصبحت صديقات العروس الكثيرات مسؤولات عن زينتها، و أصبحت ملحفة النيلة مقززة، و ضفير الشعر سببا في تلفه، و رائحة القرنفل دليل التخلف.. توارت من مخيمنا، صور العريس، المحفوف بأترابه ، يوزعون الحلوى لزواره صبيحة زفافه، في خيم يضوع البخور بجنباتها، و يفوح العطر بزواياها، و تصدح موسيقى البيظان الأصيلة بفضائها، فقد اختلطت الثقافات هنا بالمخيم، حتى بات الموجود منها هنا هجين بلا طعم أو رائحة .
و رغم كل شئ، يبقى صراع الفرح و الحزن من أروع صور المخيم الصامد، فلا شئ هنا يمكنه قهر الإنسان، و لا شئ يمكنه كبح إرادة الحياة فيه…