في الموسم السياسي الذي يجري الترتيب، حثيثا، لجني ثمراته اليانعة، تنفس الشعب الموريتاني الصعداء، مرتين؛ مرة مع الإرهاصات الأولى لترشح الرئيس المنتخب محمد ولد محمد أحمد ولد الغزواني، عشية الجمع التاريخي المشهود، في ملعب شيخه ولد بيدية بالعاصمة، عندما خاطب الغزواني الجمهورَ الحاضر، مباشرة وبلا واسطة، مؤكدا بشائر الخبر اليقين، عن عملية تداول سلمي أكيدة، على مستوى المنصب الأعلى في الدولة؛ وهو خطاب توقفت معه كتيبة المأمورية الثالثة عن جعجعتها الكريهة، وتقاسمت طحينها البائس فيما بينها، كما صمتَ مكاءُ المتزلفين وتصديتهم، إلى حين؛
أما المرة الثانية التي تنفس فيها الشعب الموريتاني الصعداء، فكانت في تلك الليلة الانتخابية الساهرة التي وقعت فيها غالبية الموريتانيين شهادة جماعية موثقة في المحاضر، باختيار محمد ولد محمد أحمد الغزواني، عن وعي وسبق إصرار، رئيسا من الشوط الأول؛ رئيس ترفعه وشيكا على منصة الحكم، في حفل تنصيب بهيج، يحضره الأشقاء والشركاء، وتهراق فيه ثمالة العشرية الكالحة، ويتفرغ الشعب ورئيسه المنتخب لتخليص الدولة من الحالة المرضية المزمنة التي استوطنت جسمها لعقود متتالية، ثم سرت إلى مفاصلها بالشلل الكامل والفشل الذريع، خلال العقد الأخير؛
،
جسيمة هي المهام، وعظيمة هي المسئوليات، ووجيهة هي الآمال والتطلعات، التي تنتظر الرئيس محمد الغزواني، ويجد نفسه في مواجهتها غدا، فيما يصطف ناخبوه، وهم غالبية الشعب الموريتاني، انتظارا على أحر من الجمر، وترقبا وتقييما لآليات ووسائل وأعوان وثمرات التصدي لها، على مختلف المسارات؛ فهم بحاجة ماسة إلى ما يقدم الدليل الدامغ والحجة البالغة على أن ثقتهم في الرجل، والمعبر عنها يوم الاقتراع، كانت في محلها فعلا، وأن الانتشال الآمن لوطن ألجمه طوفان الفساد، واتسع الخرق فيه على الراتق، وكاد يدركه الغرق؛ قد بدأت عمليته بالفعل؛
كان الشعب الموريتاني على صواب حين منح ثقته الغالية للرئيس محمد الغزواني، فقد لمس في تعهداته وخطاباته، القدرة والإرادة المصممة للخروج به من الواقع المريض؛ واقع تخلت فيه الدولة عن أهم وظائفها، وتفرغ رجالها ونساؤها للزحام والخصام على الفُتات، وتنافسوا بيعا وشراء على العقارات والتجارات؛ وشغلتهم همهم ووقتهم صراعات وتغابن الأسر والعشائر والقبائل والفئات والجهات؛ وإذكاء النعرات العنصرية، وإيقاظ ثارات التاريخ وأيامه الدامية؛ وهكذا سادت في الدولة شريعة الغاب والمخلب والناب، وقانون الأهل والأصحاب والأحباب، فغاب العدل والإحسان، وساد الغبن والحرمان، واجتمعت على الناس شدة المؤونة وجور السلطان؛
أي نتائج منطقية يمكن تصورها لتلك المقدمات، غير ما عاشته وتعيشه البلاد من تفاقم معدلات الفقر والعوز، وارتفاع مؤشرات الجهل والمرض، وتفشي العطالة والبطالة، وانهيار المنظومات التعليمية والصحية والغذائية والأمنية، والإفلاس المتلاحق لكبريات الشركات والمؤسسات الوطنية، وتوقف القطاعات الإنتاجية والخدمية، وتبديد الثروات الوطنية، وارتهانها للأغراب من الشرق والغرب، في صفقات مشبوهة، وفضائح علنية؛ مع تشجيع وتأطير العبث بالثوابت والمقدسات، وتجفيف منابع الخير والدعوة إليه، وانسداد الأفق العام، وغياب أي ضوء في نهاية النفق؟
يعلم الرئيس محمد الغزواني، أكثر من أي منا، تلك الحقائق المؤرقة، فقد كان، مثله مثل غالب الموريتانيين، شاهدا على تفاصيلها وأوجهها العديدة القبيحة؛ ويعلم، أكثر من أي منا، أنها من عبث "بطانة السوء" الأمارة بالشر والمنكر، المتحكمة في الدولة منذ أربعة عقود كاملة، جنى المجتمع ثمراتها المرة خيبات وإخفاقات على كل صعيد؛ ومن المؤكد الذي لا ريب فيه أن الرئيس المنتخب الذي تعهد في برنامجه بالإصلاح، وللعهد عنده معنى، من المؤكد أنه يدرك أفضل من غيره، أن أي مشروع للإصلاح الحقيقي يمر حتما بقطع دابر عصابة الشر تلك، واقتلاعها من جذورها، والاجتهاد في انتقاء عناصر لفريقه الحكومي وشبكة المسؤولين ومختلف الأعوان، من عناصر صدق وخبرة تشكل له "بطانة خير" تشير بالمعروف وتأتمر به وتعين عليه.
هو شبه عقد تم داخل صناديق الاقتراع، بين الرئيس المنتخب محمد الغزواني، وبين الشعب الموريتاني ممثلا في غالبيته التي اختارته لهذه المسئولية التاريخية، وعلق عليه أمالا عراضا للخروج به من التيه المتطاول في بيداء الفساد والتردي، ومن مقتضيات هذا العقد أن تكون الخطوة الأولى على سلم الإصلاح بكل حمولته من الغايات النبيلة، هي إعادة الاعتبار للمعايير الصحيحة والسليمة والعادلة والضامنة، لاختيار المسئولين والأعوان، بعيدا عن اعتبارات العائلة والحزب والقبيلة والفئة والجهة؛
لقد نسي الناس أو كادوا أغلب تلك المعايير الصحيحة، لطول ما غابت عن واقعهم، ومنها مما لا يختلف حوله اثنان:
- الأمانة والعفة عن الحرام؛
- الكفاءة العلمية والمعرفية؛
- الخبرة العملية الميدانية؛
- الولاء للوطن وإرادة الإصلاح؛
- الاحتكام إلى الدستور والقانون؛
- الإقرار بالمواطنة المتكافئة؛
- التشبع بمثل العدالة والديمقراطية؛
- الإيمان بقيم الحق والخير والعدل؛
- الدفاع عن مبادئ الحرية وحقوق الإنسان؛
حين يقطع ولي الأمر دابر بطانة الشر التي تامره بالمنكر وتزينه له، وتنهاه عن المعروف وتخوفه منه؛ ثم يتخذ بوعي بطانة خير، تأمره بالمعروف وتعينه عليه، وتنهى عن المنكر وتحذره منه؛ ثم يتذكر مسؤوليته عن سلوك وأخلاق من يقربهم ويكل إليهم أمره، ويقيم ميزان عدل وقسط، للعقوبة والجزاء؛
وحين يجعل الأفراد والجماعات والأحزاب والإعلام والمدونون ومنظمات المجتمع المدني، من أنفسهم وتنظيماتهم، رقباء على الشأن العام، وعلى تصرفات وأقوال وافعال القائمين عليه؛ عندئذ يمكن للشعب أن يتنفس الصعداء للمرة الثالثة في هذا الموسم الفريد.