خلافا لما قد يروج له البعض؛ يرتبط الدين إلى حد بعيد - بحكم الإستقراء التاريخي من خلال روافده الروحية و الفكرية والفلسفية وغيرها- بحقوق الناس، أو ما يطلق عليه في الإصطلاح الحديث ب ‘‘حقوق الإنسان‘‘..سواء تعلق الأمر بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان، أو الإتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان.. و الميثاق العربي لحقوق الإنسان..أو الإتفاقية الآمريكية لحقوق الإنسان.. و الميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان و الشعوب .. هذه الآليات القانونية الدولية و ما تتضمن من المقاربات، على إختلاف مرتكزاتها و أسسها و خلفياتها الدينية و الفلسفية، تمجد إحترام المعتقد الديني(الحرية الدينية) إلى درجة أنها تقيد أحيانا وفق نفس النصوص القانونية.. حقوقا مهمة مثل ‘‘حرية التعبير‘‘ .. إذا ما توافرت شروط معينة و قيود قانونية في نازلة ما أو نوازل منشورة أمام القضاء ...،
أولا/ الميثاق الإفريقي وتمجيد القيم و التقاليد العريقة
..و الميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان وواجبات الشعوب، الذي يأتي في مقدمة الآليات القانونية الملزمة للقاضي الإفريقي و كذلك الحال بالنسبة للقاضي الوطني الموريتاني المختص.. قاضي الحريات .. و الذي يتملك بهذه المناسبة ‘‘صلاحية تقيد الحرية‘‘ و توسيع نطاق مجالها ‘‘‘وفق صلاحياته في ‘‘تفسير نصوص‘‘ الآلية و غيرها .. لا يفترض فقط إحترام تطبيق التعاليم الدين الإسلامي في سياق تكريس إحترام ‘‘الحرية الدينية‘‘ (المادة 8 من الميثاق الإفريقي) .. و إنما يتعدي ذلك أيضا وفق ديباجة الميثاق إلي فرض حماية بشكل لافت و صريح ل ‘‘ الخصوصيات الثقافية الإفريقية‘‘ و إلي ‘‘ضرورة مراعاة القيم الإفريقية‘‘ ‘‘التقليدية الأصيلة‘‘ ..،
و عليه فإن النتيجة القانونية من ممارسة حرية التعبير -هنا و هناك- مهما كانت المقاربات الفكرية .. ستعتبر دخيلة و متحررة وعديمة الأثر القانوني ما لم تحافظ علي المرتكرات التي تقوم عليها المقاربة الإفريقية في مجال حقوق الإنسان.. و التي تمجد الدين و ر جاله من أئمة و شيوخ و طلبة العلم تحت الشجرة arbre apalabre.. و تحت الخيمة أو داخل المحظرة و غيرها من دور و مداس تقليدية لطلب و نشر العلوم و المعارف الدينية المختلفة بشكل تقليدي .. لذا تعين إحترام هذه الرموز و الدلالات الثقافية الإفريقية، الخاصة بشعوب القارة الإفريقية علي إختلاف معتقداتهم .. و التي من بين شعوبها من يمجد ديانة وثنية بالإضافة لتمجيد شعوب القارة للديانات السماوية كالإسلام و المسيحية ..،
و عليه فإنه على القضاء و القائمين عليه من مستويات مختلفة.. وكذلك من خلال دور الحقوقيين و المدافعين عن حقوق الإنسان داخل أو خارج هيئات المجتمع المدني.. يتوجب على الجميع في هذا المقام مراعاة ضمان تكريس إحترام ممارسة هذه الشعائر ..من منطلق المادة 8 من الميثاق الآفريقي حماية ‘‘الحرية الدينية‘‘.. داخل منظواتنا القضائية..و بشكل يضمن أيضا مراعاة ماورد في ديباجة نفس الميثاق،من ‘‘ضرورة مراعاة الخصوصيات الإفريقية‘‘ و‘‘ إحترام القيم الإفريقية التقليدية الأصيلة ..،
ولعل هذا ما دفع بالقاضي إسحاق گيما،الرئيس الأسبق للجنة الإفريقية لحقوق الإنسان، منذو عشرين سنة..إلى القول في محاضرة له(كان لنا الشرف المشاركة فيها) ، حول ‘‘حماية الحرية الدينية في النظام القضائي الافريقي لحقوق الإنسان‘‘ ،حلال دورة المعهد الدولي لحقوق الإنسان بستراسبورغ سنة 1999، و التي كان موضوع دورتها عن ‘‘حماية الحرية الدينية في النظم القضائية لحقوق الإنسان" ..إلى القول ‘‘بحق‘‘ أن ‘‘النظام القضائي الإفريقي في إطار إحترامه في تطبيق محتوى الميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان و الشعوب فهو خاصة في مجال الحرية الدينية فإنه يضمن الحقوق لجميع الأقليات الدينية و للجميع علي حد السواء في إطار إحترام الخصوصيات التقليدية الافريقية الأصيلة و أن هذه الخصوصيات في القارة الإفريقية، لاتعترف مثلا بحقوق تحميها اليوم بعض نظم حماية حقوق الإنسان كحقوق المثليين مثلا..،
ثانيا/ أوروبا بين الحرية الدينية..و الحرب الغير معلنة ضد الدين
إذا كانت بالأمس الخلفية الدينية اليهودية/ النصرانية لحقوق الإنسان في أوروبا قد دفعت بالمحكمة الاوروبية لحقوق الإنسان..إلى إعلان ‘‘حرب غير معلن عنها‘‘ ضد الإسلام.. بخصوص موقف هذه المحكمة من مسألة ‘‘إرتداء الحجاب الإسلامي‘‘ ..بالنظر إلي سلسلة من القرارات في هذ ا الصدد.. و نتيجة أيضا إلي إعتبارات و قيم تفضيلية جميعها.. لا تمت صلة في جوهرها و أساسها القانوني إلي الموضوعية و تعكس ‘‘الرغبة بالدفع بدورها إلي تكريس ‘‘الخصوصية الأوروبية في مسألة منع ‘‘إرتداء الحجاب في الأماكن العمومية‘‘ الاوروبية ..بحجة تعارض هذا الاستخدام و ‘‘طبيعة القيم العلمانية و القواعد الديموقراطية للمجتمعات الأوروبية المتمدنة‘‘ .. و ليس غريبا أن جميع قرارات المحكمة الأعلي في الهرم القضاء الأوروبي لاتتوراي في أحكامها في التأكيد بقوة علي هذا الموقف في مختلف الحيثيات الدالة ..عندما ينص قاضي المحكمة قبل منطوق قراره ‘‘...بأن إستخدام أو إرتداء الحجاب يتعارض و طببعة النظم الديموقراطبة و طبيعة المجتمعات المتقدمة و عليه فيحظر إرتداءه في الأمكان(... )‘‘و تكمن الحرب الغير معلن عنها من قبل القاضي في الربط بين الحجاب على الرغم من تكريس حماية إرتداءه بإسم الحرية الدينية و طبيعة النظم الأوروبية الديموقراطية و مجتمعاتها المتمدنة.. فيما يكون الحرص علي حماية و ممارسة هذا الحق تعني ‘‘الإنتماء إلي الشمولية السياسية و إلى المجتمعات المتخلفة ‘‘ ..،
و إذا كانا هنا أمام تفسير معين للمادة 8 من الإتفاقية الاوروبية لحقوق الإنسان بخصوص حماية الحرية الدينية.. فإن القرار المبدئي الأخير للمحكمة الأوروبية..إذا كان حسب البعض يعتبر تحول في الموقف.. إلا أننا نعتبره تأكيد لما تقدم( .. https://www.lecho.be/…/le-port-du-voile-un-dr…/10051420.html)..،
ثالثا/ الحرية الدينية.. و الدروس
إذا أقتصر حديثنا علي النظامين الإفريقي الاوروبي في مجال حقوق الإنسان في مسألة تقرير و حماية حرية المعتقد..فمرد ذلك تأثير النظام الأخير علي الأول و بشكل خاص لدي الباحثين و الحقوقيين.. إلى درجة يتعين معه الإشارة الى ما يلي:
-ينبغي التركيز و التقيد بالنظمومة الإفريقية من قبل الجهات القضائية المختصة قبل أستنساخ النظم القضائية الأخرى. حتي لانقع أحيانا في مغالطات غير مبررة؛
-ما لم يتم تحديد موقف واضح من الآليات المكرسة لحقوق الإنسان في بلد ما و علي جميع سكانه و الذين هم حسب الإحصائيات الرسمية جميعهم مسلمون مثل موريتانيا و ما يتطلب ذلك من موقف رسمي واضح في هذا الصدد و كذلك من قبل العلماء و رجال الدين بخصوص هذه الآليات يظل دور القضاء و فق مقتضات دولة القانون صاحب الكلمة الفصل الأخيرة؛
- يتعين علي المحكمة العليا في بلد كالجمهورية الإسلامية الموريتانية في هذا الصدد أن تشق بقراراتها إجتهادا ثاقبا في أساليب التفسير و في وضع خطوط حمراء لإحترام الثوابت الدينية و غيرها في حدود مراعاة المنظومة القضائية الوطنية..بكل ما يتطلب العمل من صرامة و مرونة..،
‘‘ليهلك من هلك عن بينة و يحيي من يحي عن بينة و إن الله لسميع عليم‘‘..صدق الله العظيم..سورة الأنفال.
القاضي سيدي محمد شينة رئيس محكمة جرائم الاسترقاق الجنوبية