يبدو لي النقاش الدائر حول موضوع التعليم مبالغا في التجاذب لأسباب إيديولوجية وسياسية وحتى بعض العارفين بالمجال يحضر عندهم الموقف أكثر من التشخيص ولا يستحضرون بالمستوى الكافي حصاد تجارب وقرارات طبعت هذا القطاع و آثارها مؤكدة على أي مقاربة لإصلاحه وعلاج أمره.
غني عن القول أنني لا أدعي معرفة متخصصة بقطاع التعليم ومعروف أنني من أصحاب المواقف ولذلك سلبيته التي أشرت إليها خصوصا إذا طغى وسبب الغفلة عن الوقائع والعبر.
معروفة هي أهمية التعليم ودوره المسلم به في حماية الهويات وتعزيزها وتحقيق النهوض والارتفاع بالأمم والشعوب ومعلوم كم كان للنجاح فيه من إسهام في نهضة دول معروفة مثل سنغافوره وكوريا الجنوبية وألمانيا واليابان وفنلندا وماليزيا وكندا..... ، ومعروف من تجارب هذه الدول أن للتعليم عوامل عديدة ينهض بها منها مناهجه وحجم الاستثمار فيه ولغته أو لغاته وتعبيره عن هوية المجتمع ودينه ودور المجتمع والأسرة التربوية فيه وعلاقته بالواقع وسوق العمل والانتاج وحجم التطور والإبداع والتجديد فيه.
لقد عرف موضوع التعليم في موريتانيا محطات وتطورات عديدة وجربت فيه قرارات متناقضة أغلبها كانت بدوافع سياسية بعد نقاش سطحي حول لغة التدريس وأدى الترابط بين قضية التعليم والمسألة السياسية إلى سلبيات عديدة وأوصل الأمور إلى استقطابات ضارة استعصم فيها كل أحد بموقفه وذهب التعليم ضحية لذلك وظلت الأمور المتعلقة بتطوير وتجويد القطاع غائبة عن الاهتمام والمتابعة في ظل الاهتمام بالسؤال الوحيد عن لغة التدريس!
الآن لمقاربة هذا الموضوع وللحديث الجدي في مسار يفضي إلى إصلاح حقيقي لقطاع كان المدخل الأهم لنهضة وتطور شعوب كثيرة يلزمنا استحضار المنطلقات والأسس التالية :
1 - أن لهذا البلد دينا وله هوية بتعبيراتها المختلفة والمتعددة وتلك أمور لازمة الاعتبار والاستحضار في أي رؤية تعليمية إصلاحية خصوصا في الجوانب التوجيهية والثقافية مع اعتماد المقاربة الوسطية التي تنمي القيم وتحصن ضد الانحراف والتطرف.
2 - لهذا البلد لغة رسمية هي اللغة العربية وله لغات وطنية هي العربية والبولارية والسونوكية والولفية وكل تعليم ناجح - والتجارب شاهدة - مرتبط بمستوى غلبة لغة أو لغات المجتمع ( اللغة الأم ) عليه واللغة العربية لغة متطورة ورسمية بصريح الدستور وأن تكون اللغة الرئيسية في التعليم أمر وارد ومطلوب ومبرر واللغات الوطنية - وهي لغات بالمناسبة وتسميتها لهجات مخالفة للدستور وتجاهل لواقعها ( البولارية مثلا تطورت وكتبت وألفت بها الكتب وتجارب تطويرها معروفة في عدد من البلدان ) - لغات أم لطائفة كبيرة من أبناء الوطن وحضورها في التعليم بهذا المستوى أمر لازم يوازيه عمل جدي للتطوير والتأهيل، ولاشك أن إيقاف وإفشال تجربة معهد اللغات الوطنية لم يكن لمصلحة مسار التواصل والاندماج والتناغم.
3 - تدريس اللغات العالمية وفي مقدمتها اللغة الفرنسية ركن أساسي في أي تعليم يريد له أصحابه أن ينفتح على المعارف الحديثة في مصادرها وتطورها معا ومع أن هذا الأمر مرتبط بتدريس اللغات لا لغات التدريس على حد تدقيق الدكتور المقرئ الآدريسي أبو زيد فإن للغة الفرنسية خصوصية مفهومة فقد حضرت في سابق التجارب الإصلاحية للتعليم والعلاقات الثقافية مع الفضاء الفرانكفوني اقليميا ودوليا واسعة فضلا عن أنها أصبحت عنوانا بارزا في النقاش السياسي حول التعليم.
4 - ولا تكتمل المقاربة الإصلاحية للتعليم إلا باستحضار جوانب ذات دور محوري في أي نهضة تعليمية ويتعلق الأمر بالمناهج المغرية والأساليب والآليات الصارمة فضلا عن المخصصات المجزية والتطوير السريع والمستمر للعاملين في هذا القطاع مع تحسين الظروف لا لتصل مستوى سنغافوره واليابان! ولكن لتقطع مع الازدراء والظروف المأساوية للأسرة التربوية هذا فضلا عن مقاربات مثل " التعليم المنتج " و " التعليم المتنوع "
إن جمع هذه الأبعاد في مقاربة إصلاحية يتولى أهل الاختصاص بلورتها وتحويلها إلى خطط معلومة التزمين والاحتياج أمر ضروري أما الاصطفاف خلف شعارات مثل " تعريب التعليم" أو " ازدواجية التعليم" أو غيرها فلا يقدم ولا يؤخر .
يبقى أن أشير إلى أن مصطلح المدرسة الجمهورية التي تعلى من مفهوم المواطنة المتساوية والجامعة مصطلح خادم لهذا التوجه ، إنها المدرسة التي تخرج مواطنا يفهم معنى الدولة وولاؤه للمشترك وليس للعرق أو الفئة أو الجهة أو القبيلة.