أما سياسة قطاع المحروقات الخام فقد ركزت، من جانبها، ولفترة طويلة على الإطار المؤسسي، وخاصة على تحديث الإطار القانوني وتحسين الجاذبية لشركات التنقيب عن النفط.
وفي الوقت نفسه، وعلى الرغم من إنشاء الصندوق الوطني لإيرادات المحروقات سنة 2006 ضمن آلية لامتصاص التقلبات في الأسعار وفى مستويات الإنتاج (ونظريا أيضا من أجل الاستثمار ما أمكن لصالح الأجيال القادمة واحتواء الانفاق الحكومي)، فقد استمر النهج الريعي سائدا في إدارة الموارد على تواضعها (كما هو الحال في الصناعات الاستخراجية الأخرى)، مع القليل من الاندماج والتكامل بين القطاع وباقى الاقتصاد الوطني.
غير أنه مع الاكتشاف الأخير لموارد الغاز الكبيرة وإطلاق مشروع تطوير حقل GTA (السلحفاة الكبيرة آحميم) على الحدود البحرية مع السنغال، بدأ القطاع يتحرك في ظل سياق جديد:
- هناك اهتمام متجدد من شركات النفط متعددة الجنسيات، بعد مجىء شركةBP ، وهو ما يتجلى فى التواجد القوي لكبرى شركات النفط التي انجذبت للاكتشافات الجديدة والإمكانات الواعدة فى أعماق المياه البحرية الموريتانية.
- تتوقع البلاد نموًا اقتصاديا مدفوعًا بالديناميكية الجديدة التي يشهدها القطاع، وبالخصوص الآفاق المتوقعة بتحقيق إيرادات كبيرة من خلال تصدير الغاز المسال.
إن هذا السياق الجديد، إن لم يتطلب إعادة صياغة أو إجراءَ إصلاح شامل، فإنه يستدعى على الأقل تجديدا للسياسة الوطنية للمحروقات والتي يجب أن تجعل من المساهمة الفعالة في الأنشطة النفطية، وتطوير الإنتاج والإدارة المستدامة للمداخيل، رافعات حقيقية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية للبلاد. ذلك أن رفاهية السكان والأجيال المقبلة ستعتمد على إدارة مستدامة وشفافة للموارد، تجمع بين الصرامة واحترام البيئة.
وهكذا، ينبغى أن تُفيدنا الخبرات المكتسبة لنتمكن من تجنب مآزق وخيبات الاقتصاد الريعي، ولنحرص على إدارة الموارد بطريقة شفافة حقًا وعلى الاستخدام الرشيد للمداخيل بهدف تمويل التعليم (اقتطاع جزء محدد من عائدات الصندوق الوطني لإيرادات المحروقات، كما هو مقترح فى الفصل المتعلق بالتعليم)، ودعم جهود الحد من الفقر وتحفيز تنمية اقتصادية متعددة القطاعات.
ويمكن بلورة السياسة الوطنية الجديدة للمحروقات حول جملة من المحاور والركائز الأساسية :
المحور الأول : إقامة إطار أخلاقي واجتماعي- بيئي، متكامل وقوي
إن التقدم المُحرز حتى الآن، لاسيما مراجعة الإطار القانوني والتنظيمي، والأخذ في الحسبان للمعايير الدولية السارية في مجال صناعة النفط، وإصدار التقارير المتعلقة بـمبادرة الشفافية في مجال الصناعات الاستخراجية، نقاطٌ هامة يجب أن تتم متابعتها والبناء عليها، من أجل:
أ- وضع إطار استراتيجي اجتماعي-بيئي متكامل ونظام معلومات بيئي يكون بمثابة المرجعية للدراسات المتعلقة بالتأثير البيئي والاجتماعي لأي مشروع نفط أو غاز. ويجب أن تأخذ تلك الدراسات في الاعتبار جميع المخاطر المُحققة أو المُحتملة التي يمكن أن تؤثر على أنظمتنا الإيكولوجية مع إيلاء اهتمام خاص لمياهنا البحرية ومواردنا السمكية وسواحلنا التي يمكن أن تتأثر أنواعها وأجناسها المحمية، كما هو الشأن للمحميات الطبيعية في حظيرة جياولينغ في الجنوب أو حوض آرگين في الشمال.
ب- تجاوز متطلبات تقارير الشفافية المتعلقة بمبادرة ((EITI، خاصة فى مجال المواظبة على مواعيد نشر التقارير، وكذا توقيت إتاحة المعلومات والبيانات، إذ تتضاءل قيمة المعلومات عندما لا تُنشر إلا بشكل متأخر بعد مضي عامين عليها. بل ينبغي أن تتاح المعلومات والبيانات بشكل آني وباستمرار. وضمن المنظور نفسه، سيتعين تعزيز القواعد المتعلقة بإدارة واستخدام عائدات النفط، بما يشكل إطارا منسجما وعمليا.
المحور الثانى : تطوير إدارة فعالة للأنشطة والثروة النفطية
أ- سيتطلب ذلك، إلى جانب "السجل النفطي" المحوسب، إنشاء قاعدة بيانات نفطية "حية" يتم إثراؤها وتحديثها باستمرار، من خلال بيانات المسح الزلزالي ومعطيات آبارالتنقيب، وغيرها من المعطيات المُستقاة من أنشطة استكشاف وتقييم أو تطوير الحقول النفطية.
ب- كما يتعين تجهيز مختبرات للتحليل البتروكيميائي، وكذلك برامج معلوماتية حديثة لتحليل البيانات ومحاكاة الخزانات البترولية، من أجل تعزيز قدرات الشركة الوطنية وفرق الوزارة، مع إمكانية الاستعانة بدعم فني خارجي، إن لزم الأمر.
المحور الثالث - ضمان عائدات وانعكاسات مُثلى وإدماج قطاع النفط في الاقتصاد الوطني
أ- كي يُثمر استغلال الغاز أحسن الانعكاسات على اقتصاد البلاد، ونحصل على أعلى العوائد، سيتعين علينا التخلى عن النهج الريعي، وعدم التركيز فقط على الإيرادات المباشرة الناشئة عن البنود التعاقدية وخاصة تلك المتعلقة بتقاسم الإنتاج.
ب- ويجب تصميم وتنفيذ استراتيجية لتطوير "المحتوى الوطني" من أجل زيادة الفوائد الإجمالية، ليس فقط من خلال تشغيل الموظفين واليد العاملة الموريتانية بواسطة المشغلين الأجانب (شركات الاستغلال الكبرى) ومقاوليها من الباطن، ولكن أيضًا من خلال المساهمة المباشرة للشركات الموريتانية في الصناعة البترولية. وبعبارة أخرى الاستفادة بأقصى ما يمكن من كافة أشكال القيمة المضافة المتصلة باستكشاف أو استغلال حقول النفط والغاز.
ج- ويمر ذلك طبعا بتحسين مستوى المهارات المتوفرة والقدرات المحلية من حيث الموارد البشرية المؤهلة والمعدات والوسائل اللازمة لتلبية احتياجات المشغلين والمقاولين من الباطن، والعمل على توفير المزيد منها استجابة للطلب المتزايد. ولذا، فإن الحاجة إلى تصميم وتنفيذ برنامج تكوين مهني واسع النطاق، تُسهم فيه شركات النفط والفاعلون المعنيون في مجال التعليم والتكوين المهني وأربابُ العمل الموريتانيون، تُعتبر ضرورةً بديهية.
و من شأن استراتيجية "المحتوى الوطني" التي تهدف إلى إدماج قطاع النفط في الاقتصاد الوطني، أن تسمح ببروز شركات موريتانية متنوعة التخصصات، قادرة على المشاركة بالكفاءات والمهارات الفنية اللازمة، وأخذ موقعها في هذه الصناعة الجديدة، ليس فقط من حيث الخدمات اللوجستية المحلية، ولكن أيضًا على مستوى مجموعة كاملة من الخدمات على طول سلسلة القيمة بأكملها...
د- ولدعم هذه الاستراتيجية، فإن اعتماد قانون حول "المحتوى الوطني"، على غرار العديد من البلدان المنتجة، سيمكّن من وضع المبادئ بوضوح و سيمكّن أيضًا من تأطير الجهود وتنظيم المقاربات الهادفة إلى "مرتنة" أكبر قدر ممكن من حلقات سلسلة القيمة فى صناعة النفط والغاز، بطريقة تدريجية ومنهجية بُغية تطوير واستدامة نسيج صناعي حقيقي في بلدنا. وكل ذلك طبعا مع الخطوات المدروسة فى المجالات المُصاحبة، وعلى رأسها التكوين ونقل الخبرات واكتساب المهارات وتوطينها بشكل مستدام.
المحور الرابع - تكريس الغاز فى بلدنا ك"وقود لمرحلة الانتقال الطاقوي"
أ- يتحتم، في ضوء الموارد والإمكانات الجديدة، أن يوضع مخطط توجيهي أو "خطة غاز رئيسية" لتكريس وتنويع استخدامات الغاز الطبيعي في بلدنا بوصفه الطاقة الأنظف من بين جميع أشكال الطاقة الأحفورية؛ وعلاوة على ذلك فهي طاقة موثوقة وبأسعار معقولة وستكون -قريبا إن شاء الله- متاحة بوفرة محليا. وينبغى أن تمضى "خطة الغاز الرئيسية" هذه أبعدَ من الدراسات السابقة، على أن يتم تسليم تقريرها النهائي لرئيس الجمهورية، مع توصيات محددة تغطى، ليس فقط محور المبيعات للخارج من خلال تصدير الغاز الطبيعي المسال، وإنما أيضًا كافة سُبل الاستخدام الممكنة محليا. وستتضمن الأولويات حتما توليد الكهرباء والاستغناء النهائي عن توليد الطاقة بالوقود المستورد، وكذلك استخدام الغاز الطبيعي المضغوط (CNG) في المواقع الصناعية ومناجم التعدين، ولِم لا في مجال النقل أيضا.
ب- و يجدُر أن لا تقتصر الاستفادة من الغاز على النقاط السابقة. بل يمكن النظر فى استخدامات أخرى مع تزايد موارد الغاز، ونذكر على سبيل المثال:
- إنتاج الأسمدة: وذلك عبر استخدام الغاز لإنتاج حامض الفوسفوريك، ومن شأن ذلك أن يُمَكن، عند استغلال خام الفوسفات في جنوب البلاد، من إنتاج الأسمدة الفوسفاتية، مما سيفى باحتياجات الزراعة المحلية مع تصدير الفائض إلى بلدان أخرى في شبه المنطقة.
- يجب أن تستفيد الزراعة في منطقة النهر من طاقة أرخص وأكثر توفرًا بالنسبة لأنشطة الري والحصاد وتثمين المحاصيل، وبالتالي إعطاء دفعة قوية للتنمية الزراعية في البلاد.
- استخدام الغاز لتكوير الحديد والذي من شأنه أن يُثمن إنتاجنا المعدني وفي نفس الوقت سيتيح استحداث عدد هام من الوظائف الإضافية.
- التخطيط لتطوير أو تجديد جزء من أسطول السيارات فى البلد (النقل العام/الحافلات، العربات التجارية، المركبات الثقيلة والآلات الصناعية لشركات التعدين، الآلات الزراعية ، إلخ ...) لاستخدام الغاز الطبيعي المضغوط CNG كوقود جديد بدلاً من الديزل أو البنزين المستوردان حاليًا[2]. وتعتبر المكاسب الاقتصادية واضحة كما أن انبعاثات ثاني أكسيد الكربون ستقل بشكل كبير.
[1] فصل من الوثيقة المعنونة "مقترحات لإقلاع موريتانيا - مساهمة في النقاش في إطار رئاسيات 2019"
[2] - توجد اليوم أكثر من 20 مليون سيارة تعمل بالغاز الطبيعي في العالم، ويمكن تحويل أي سيارة تعمل بالبنزين للعمل بشكل مزدوج (بنزين، أوغاز طبيعي مضغوط -CNG). ومن المزايا الرئيسية لسيارات الغاز الطبيعي المضغوط: تقليل تكاليف الاستهلاك والحد من الاعتماد على النفط المستورد، بالإضافة إلى تقليل التلوث (على الأقل ب25 %). وتجدر الإشارة إلى أن الغاز الطبيعي هو حتى الآن، الوقود البديل غير المشتق من الديزل الأكثر شيوعًا للحافلات (فى شكله المضغوط -CNG).