كان الذين سخروا من السؤال عن معنى وصف "المؤسس" في اللغة العربية، والذي كنت قد طرحته على أصدقاء الصفحة، منذ بعض الوقت، على حق، وكانت سخريتهم في محلها! فلولا كثرة ما يّفتَري المتملقون والمهرجون والمرجفون، من كذب وزور، وما يحرِّفون من كلم عن مواضعه، وما يطلقون جزافا من ألقاب ونعوت لا صلة لها بالمنعوت، لولا كل ذلك لما اضطر أحد إلى طرح
سؤال هزلي بدهي كهذا؛
أستأذن أصدقاء الصفحة في سحب السؤال الهزلي من التداول، وطرح سؤال جاد، أتولى- بعد إذنهم- الإجابة عنه بنفسي؛ وليكن السؤال: أي رؤسائنا يصدق عليه وصف المؤسس؟! وأقول في الجواب وبالله تعالى التوفيق: إن الرئيس الموريتاني المؤسس هو من فكر، ثم حلم، ثم عزم، ثم صمم على إقامة وقيادة تيار وطني، واع انتقل بحلم الدولة الموريتانية من حال اللاوجود، إلى مشروع الوجود، يوم قرر المستعمر الفرنسي الخروج بأقل الخسائر من مستعمراته في غرب إفريقيا؛
الرئيس المؤسس هو من واجه بنجاح، كل المطامع الإقليمية التي غذتها اعتبارات أثنية وتاريخية، شمالا وجنوبا، ودعمتها قوى عديدة، في الداخل والخارج، مع أبواق دعاية ذات صوت مرتفع؛ ثم انتزع الفوز مع تياره الوطني الواعي، بدولة موريتانية مستقلة، جاءت إلى العالم مفتقرة لكل شيء: الجذور، الاعتراف، الحماية، التمويل، المساعدة الفنية، ولكل منها ثمن باهظ، لم يكن المجتمع يومها مؤهلا لدفعه؛
الرئيس المؤسس هو من أقام في تلك الظروف غير المواتية، دولة عصرية كاملة العضوية في المجتمع الدولي، شعبها مجتمع ما ألف غير الفوضى، يطبع حياته ملمح عام، ناظمه البؤس والجهل، تكرسه ساكنة فئوية قبلية، متشاكسة، قليل في حقها وصف "متخلفة"؛ قسمتها تقاليدها في طرق العيش الشحيحة إلى طائفتين، إحداهما أغلبية بدوية تعيش مرتحلة تتبع قطعان ماشية لها، تساوك هزالا، وهي كل مصادرها للحياة، تتنقل خلفها حيثما توجهت، في خوف ووجل، بين فجاج مقفرة موحشة معطشة، لا متناهية، بحثا عن بقايا كلأ أو ماء، يدر به الضرع؛
أما الطائفة الثانية أقلية قروية زراعية، تتداعى جموعها، في صباحاتها البائسة، إلى مزارع لها كالصريم، وهي تحمل آخر مدخراتها من حبوب موسم شحيح سابق، تبذره في باطن أرض جرز بور، قبل أن تعود، عوجا كالمحاريث العتيقة، تحت شفق الغروب الكئيب، إلى أخصاص مقفرة من كل متاع أو أثاث أو طعام، ثم تقضي سحابة ليلها الطويل، في مسح أفق المجهول بعيون مرهقة، بحثا عن وميض برق خلب يحي الأمل في وابل أو طل، ينبت به الزرع.
هل تصدقون أن دولة جديرة بهذا الاسم، قد قامت بالفعل، بين قوسين من التاريخ، في تلك الربوع وبين تلك الساكنة، وفي تلك البيئة ومثبطاتها ومخاوفها وعثراتها، ثم استمرت وتعززت، وتجاوزت كل الإكراهات المعيقة؟ بلى! لكم أن تصدقوا؛ فتلك هي أول دولة شاملة لهذه الربوع في التاريخ، وقد بناها فأعلى بنيانها الرئيس المؤسس بحق المرحوم الأستاذ المختار ولد داداه.