قديماً كان جدي يذهب إلى اركيز ليجلب مؤونة عام مع كل موسم حصاد، فالأرض معطاء والنفوس التي تزرعها كريمة، أما اليوم فصار إخوتي يذهبون إليه في مواسم النفاق، يزرعون الكذب في الأرض التي أنقذتهم وأجدادهم من الموت جوعاً، فلا يحصدون من ذلك إلا الأعاصير الهوجاء.
قبل عقود كنت أحتفظ في مخيلتي بصورة غرائبية عن مدينة اركيز، كنت أتخيلها جنة الدنيا، لأن سيارة القرية المتواضعة تعود منها كل مساء وهي محملة بالخضروات والحبوب والكثير من قصب السكر، الحلوى المفضلة عندنا نحن أطفال القرية البؤساء والمصابين بسوء التغذية.
لا أنسى كيف كنت أحسد صديقي الذي أخرجه أهله من المدرسة لأنهم يحتاجونه في المزرعة مع اقتراب موسم الحصاد، أوووه كم سيأكل من قصب السكر، لقد أثار غيرة جميع أطفال القرية في ذلك اليوم، صديقنا الآخر الذي غادر المدرسة لأن والده يحتاجه كمساعد له في السيارة التي تذهب يومياً إلى اركيز، كانت تعود محملة بالبضائع والأشخاص، ويعود صديقنا محملاً بالقصص حول المدينة البعيدة والجميلة، والتي تحيط بها المياه والمراعي الخضراء.
رغم الإضافات التي كان يزيدها خيال الأطفال على قصصنا عن اركيز، إلا أنها بالفعل كانت سلة غذاء لقريتنا الصغيرة والمتواضعة، كان الرجال يتوجهون إليها وليس معهم سوى سبحة وسجادة، ويجدون فيها ما يبحثون عنه من مؤونة وغذاء، إنها الأرض التي كانت تعطيهم بسخاء، فمنحوها قدراً كبيراً من الوفاء والدعاء والحب الصادق.
أما اليوم فقد تغير كل شيء، وأصبحت اركيز شاحبة وجهها تعلوه صفرة الضعف الذي يسبق الموت، فأرضها التي تشربت لقرون بعرق الكادحين ودموع المؤمنين الصادقين، ها هي اليوم تتحول إلى مرتع للغبار ومسرح للعواصف، إنها مدينة محتلة من أفواج المنافقين، انتظموا في مخيمات على شكل « فركَان » صغيرة، هناك في تلك الساحة « مخيم إدوعلي »، وعلى التلة « مخيم إدابلحسن »، وغير بعيد من تلك الشجيرات « مخيم السماسيد »، إلى جواره « مخيم تجكانت ».. وهكذا لكل قبيلة مخيمها وشعراؤها ومطبلوها، فنحرت الجزور وأطعم الطعام وعزفت القيان، إلا أن العرب لم تسمع بجيش المنافقين هذا !
والله المستعان