بداية، صديقي العزيز، من نافلة القول تذكيركم أني أعرف أن من حقكم الشخصي اتخاذ الموقف الذي ترون أنه يناسبكم، رغم بغضي لتلك الكلمة التبريرية التي يتدثر بها من غابت حجته الاقناعية، ورغم قناعتي أيضا أن من حقنا - بل من واجبنا - أن نتشارك معك - نقدا وإعجاباً وتوجيها ونصحا - آثار مواقفك، لاعتبارات عدة، أقربها الصداقة والمعاصرة، وأشملها أنها مواقف عامة نتأثر بها جميعا سلبا أو إيجابا، كما نتأثر بمواقف جميع الساسة في البلد.
صديقي، لست في وارد التأكيد أيضا أنني قد لا أملك الأهلية لتقديم التوجيه لمن هم دونكم، أحرى عصامي مثلكم شق طريقه السياسي بنجاح، متجاوزا معوقات التحزب، ومغريات المناصب، وظلم السلطة، وانهزامية النخب.
صديقي العزيز،
أرى أنه من المهم أيضا التأكيد ابتداء أني على ثقة تامة أنكم لستم ممن تغريه المناصب، أو تطبيه أحلام النفوذ، أو يشوش رؤيته بريق المال والمكاسب المادية.
انطلاقا مما سبق، وأخذه به في الحسبان، واستحضارا لكل حمولته، أود تذكيركم بأمور أرى أنها مهمة، وأنه من المناسب أن تكون حاضرة لحظة اتخاذكم لموقفكم السياسي في لحظة تاريخية فارقة.
1. تذكر صديقي العزيز حال ومآل من سبقوك من السياسيين، تذكر حماسهم ومبدأيتهم، في البدء، ثم تعريفاتهم للسياسة لحظات التحول، وتكرارهم لعبارات "فن الممكن" و"الواقعية" و"ضرورة الابتعاد عن الطوباوية". والتذكر هنا للتدبر والاعتبار، ولتجنب تكرار نفس الأخطاء، ونفس العبارات.
و"في السياق" (وهو ما كنتم فيه البارحة) أيضا عبارات "التغيير من الداخل"، و"الإصلاح المتدرج"، و"الجزئي"، و"مالا يدرك كله لا يترك جله"، وهي العبارات التي كررها أولئك بمناسبة ودونها، وهي بالمناسبة ليست خطئا في الجملة، لكنها قد تكون غير موفقة حين تغر وتعمي عن الواقع، أو تدفع لتوهم نتائج لا يشجع تاريخنا الحديث على توقعها، أو تستخدم لمجرد التبرير دون إيلاء أي قيمة لحقيقة مضامينها.
2. تذكر صديقي العزيز "معركة الوعي" التي كنت تخوضها وتراهن عليها، وكنت تقول - دائما - إن التغيير لا بد له من صبر، وإن الوعي لا بد له من تراكم، وإن التغيير قادم ومتنام، فاحذر ما يمكن أن يشكل صدمة لرواد التغيير، ومن راهنوا عليك وعليه، واشتركوا معك الرؤية المتدرجة الصبورة طويلة النفس، لأنك ستصبح - أنت ومن رفع معك هذه الرهانات في معركة الوعي - مضرب مثل، ومعيقا لتكرار التجربة: "ذاك اص فات گالولنا ولد سيدي مولود".
3. تذكر ألفي مصوت منحوك ثقتهم في آخر انتخابات، وأدخلوك قبة البرلمان – وبالمناسبة لم أكن من بينهم، وإن كنت عايشت بعضهم عن قرب، وطالعت حجم الحماس لديهم، ومستوى الطموح، وحجم التطلعات - تذكر دوافعهم واحدا واحدا، تذكر أنهم قدموك فيما يشبه العقد لأن تكون صوتا حرا، غير حزبي، وأن تجسد اللسان الصادق بالبرلمان، وأتصورهم يطربون لحديثك تحت القبة التشريعية، ويفخرون بمساءلتك، ويتباهون حين تكشف الاختلال، وتفضح المقصر، وتقترح الأصلح.
تذكر أن أدنى درجات احترام أصواتهم، والوفاء لثقتهم أن تظل صوتهم الصادح خلال المأمورية البرلمان (يفترض أنها خمس سنوات)، وأن لا تبدل أو تغير المسار الذي انتخبوك عليه، فلا تتخذ موقفا يقيد حريتك في التعبير عنهم، أو يبعدك عن البرلمان، أو يجيِّرك لما لم يختاروك له.
4. تذكر صديقي العزيز التفاتة تلك الفتاة التي أقنعت والدتها بائعة الكسكس في الترحيل بالتصويت لك، تذكر عفة تلك الأسرة التي رفضت بيع أصواتها رغم المغريات أملا في أن تكون أنت الأمل، وأن تكون نواة تغيير جاد حلموا به، تذكر شفاية الأباطرة الذين رفضت إغراءهم، تذكر جوابها على السؤال: "ذُا الل عدلنا النين شنهو؟"، وحجم الحيرة بعد هذا السؤال.
5. تذكر ذلك الشاب الكفؤ البشوش الذي واصل الليل بالنهار لتصل للبرلمان، وهو الآن خارج البلد بسبب تفليس شركته التي عمل فيها عقودا وإحالته للبطالة.
6. تذكر صديقنا الحلاق الذي وثق تصويته لك بالفيديو، رغم أنك لم تلتقه، لكنه كان يتابع لسانك الصادح بالحق، وقلمك المبين، ويحلم أن يرى فيك أمله في التغيير يتجسد، تذكر أنه معلم عقدوي يبيت في صالون الحلاقة، ويصبح على الفصل، تذكر ابتسامته الواثقة بـ"التغيير الجاد" لقد تواريت عنه اليوم في المسجد خشية أن يسألني عن الموضوع.
7. تذكر قوافل الصلحاء الأكفاء الذين اقتنعوا قبلك بضرورة "التغيير من الداخل" و"الإصلاح المتدرج، والمؤسسي". تذكر ذلك كله بعقلك، وأعد استحضار تجاربهم واحدا واحدا، وخذ العبرة منها.
8. بعد أن تتذكر كل ذلك، حاول أن تستشرف المستقبل بعد خمس سنوات من الحديث الموضوعي الصادق الجاد في البرلمان، تذكر نفسك وضميرك، وأنت تقرر العودة لناخبيك برأس مرفوع، وحصيلة مشرفة، وتمثيل استشعروه خلال كل المأمورية، ولم يجدوا خلال كل المأمورية ما يجعلهم يندمون على التصويت لك، ثم تذكر - لا قدر الله - أنك عدت إليهم من وضع مختلف، وموقع آخر، وكلاكما يتخفى من الآخر، ولا يدري الوجه الذي يقابله به، أو يبحث عن "شيء يدار على الوجه" قبل اللقاء.
صديقي العزيز،
أقدر عاليا، صعوبة الاختيار في الظروف الحالية، وحجم الارباك في الساحة، وتعدد الإكراهات، ونوعية من أعلنوا ترشحهم بشكل رسمي، ورغم ذلك فأنا أؤكد لك أني لو كنت مكانك لما اخترت أيا منهم.
أعلم تجردك، وصدق نيتك، وأراهن عليهما. فتذكر ذلك وسدد وقارب، ولا تتخذ موقفا بجعلك تبرر أكثر من ما تقنع.
والله يوفقك ويحفظك.
أخيرا تذكر تفكيرك لحظة هذه الصورة