ما تقوم به دولة قطر حاليّا من جهود وما يصدر عنها من تصريحات بشأن الأزمة الخليجيّة ينمّ عن فهم عميق لمصطلح "الدبلوماسيّة" بصفتها "فنّ وحذاقة ومهارة وشطارة" وسلاح أبيض بيَد الدول والكيانات السياسية الصغيرة في إدارة علاقاتها الخارجية، خصوصا إذا ما وجدت نفسها مُحاطة بجيران أقوى وأكبر حجما. إنّ موقع قطر، كما قلنا سابقا، يفرض عليها أن تقود علاقاتها الإقليمية والدولية بأسلوب مرهف الحس، ماهر وذكي بما يحقق مصالحها العليا دون الاصطدام بالمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة. فهي تحتاج موضوعيّا إلى مقاربات ذكية وبراغماتية وواقعية ومصلحية تراعي حساسيات جيرانها الذين يرون أنفسهم الزعماء الطبيعيّين للمنطقة. وتراعي أبعد من ذلكـ علاقاتها وعلاقات هذين الطرفين مع الولايات المتحدة الأميركية كقوة عظمى راسخة، وبقيّة اللاعبين الكبار في المنطقة، وخاصّة روسيا وإيران وتركيا.
لقد شاهد العالم كيف أنّ قطر اعتمدت حتى الآن خيار التهدئة والدعوة إلى الحوار والتفاهم والتوافق بحثا عن حلول وسطية ومنصفة. شاهدنا جميعا دعواتها المتكرّرة لتغليب منطق الأخوة ووشائج القربى بين شعوب المنطقة، واحترام القانون الدولي وحقوق الإنسان والبيئة والحيوان والاعتناء بالنسيج المجتمعي الموَحّد والمصير المشتركـ. لم تطرد أحدا. ولم تضايق أحدا. ولم تصعّد ضد أحد. ولم تنتقم من أحد. لم تراجع اتفاقاتها مع أحد؛ وبالذّات لم توقف إمدادها لدولة الإمارات بالغاز. وبهذا النهج السليم يمكنها تعويض صغر الحجم بذكاء الفعل. وهنا أستحضرُ تجربة دولة صغيرة أخرى واجهت نفس التحديات تقريبا أو أشد في مرحلة معينة من حياتها الحافلة بالنجاحات، وهي دولة سنغافورة (710 كم٢) الواقعة بين إندونيسيا وماليزيا، وفي منطقة يتصاعد فيها وجود الصين.
لقد كتبت سنغافورة عبر مسارها الزاهر دروسا بليغة ودقيقة لما ينبغي أن يكون عليه موقف الدول الأصغر حجماً إزاء مواقف وأحيانا استعلاء وتجبّر الدول الأكبر حجماً ومساحة وسكاناً خصوصاً إذا كانت مجاورة. أذكر مثلا أنّه ذات يوم ذهبت الحكومة الإندونيسية إلى حدّ نفي وجود دولة سنغافورة بقولها : "إنها مجرّد نقطة حمراء صغيرة على الخارطة". وتفاجأ العالم بأنّ سنغافورة لم تبادر إلى ردود عصبية ولا سلوكيات عنترية؛ ولكنها سارعت إلى سدّ الطرق أمام منطق القوة "الخشنة" و"الشحناء"، ولجأت إلى ما يمكن وصفه بالقوة "الناعمة". فقامت بتعبئة ما كان يسعها من مهارات ومواهب وقدرات وإمكانات دبلوماسية بعد أن حسبت بدقة وتأنّ ما تمتلكه من موارد وما تستطيع تعبئته من وسائل وأدوات إلى أن كسبت ودّ وصداقة إندونيسيا وغيرها من دول رابطة جنوب شرق آسيا المعروفة اختصارا باسم آسيان.
وبالعودة إلى الخليج، فإن قطر برأيي المتواضع تسيرُ في اتجاه حل وسط متى دنا الطرف الآخر للتفاوض. وقد أظهرت حتى الآن قدرا كبيرا من المهارة الدبلوماسية والذكاء في معالجة أزمتها مع السعودية والإمارات ومن ورائهم الرئيس الأمريكي دونالد اترمب على الطريقة السنغافورية. ولكن من يتابع الأحداث عن كثب يدركـ أنّ النموذج "الناعم" السنغفوري وحده لا يكفي لمواجهة ما تتعرّض له قطر من تهديد قد يتحوّل في أي وقت إلى عمل "خشن". ولا شيء أدل على ذلكـ من ورقة "المطالب" الصادرة عن دوّل الحصار. وقد قلتُ في مقال سابق بأنّه يتعيّن على قطر التقرب من الحلف المناوئ للدور الآمريكي السعودي في المنطقة وتغيير أو تحوير سياساتها في سوريا وليبيا واليمن والعراق؛ وذلكـ استلهاما من تجربة مشهودة لدولة صغيرة أخرى نجحت في التعامل مع الدول الأكبر حجما بطريقتها الخاصة.
بالفعل، هناكـ بوادر تشير إلى أن قطر قد تأخذ دروسا نافعة من تجربة كوبا؛ تلكم الجزيرة الصغيرة الواقعة على مرمى حجر من فلوريدا والتي صمدت أكثر من نصف قرن في وجه أمريكا وعنفوانها وجبروتها معتمدة على قوة الاديولوجيا والعقيدة السياسية والقيم والمثل والمبادئ التي آمنت بها، ومستغِلة بمهارة ظروف الحرب الباردة بين المعسكرين وما تتيحه من هامش حريّة وفرص للتحركـ واللعب. ولا يخفى على أحد أنّ دولة قطر هي الأخرى تتبنّى عقيدة سياسية وازنة ولها منهاج وقيم ومبادئ ومثُل قد تعطيها القدرة على الصمود. إنها مهيّأة لأن تقوم بإذكاء جذوة فكر"الإخوان المسلمون"، وقادرة على أن تذهب بعيدا عبر المنطقة والعالم دفاعا عن وجودها وسياساتها بالطريقة نفسها التي سارت عليها كوبا.
ومن باب الاستفادة من الوضع الدولي على غرار ما قامت به كوبا ودول صغيرة أخرى، فإنّ قطر لا بدّ وأن تفتح قنوات اتصال وتمدّ جسور تعاون مع المعسكر المناوئ للموقف السعودي في المنطقة. وقد بدأت في ذلكـ عمليا حين استجلبت قوات تركيّة إلى أرضها، واحتفظت لنفسها بعلاقات طيبة مع إيران. هذا، بالإضافة إلى ما تقوم به من حفريات هنا وهناكـ للاستفادة من التعددية القطبية التي باتت تحكم الساحة الدولية، ومحاولتها استغلال التناقضات داخل المؤسسة الآمريكيّة نفسها. هنا، تغازل الاتحاد الأوروبي من خلال المحور الألماني- الفرنسي وحتى البريطاني، وهناكـ تمدّ يدها لروسيا، إلخ. وكما قلت في مقال سابق، فإنّ هذه النكهة الكوبيّة الضاغطة على الحلف الآمريكي لا غنى عنها لمواجهة تجبّر وعتو اترمب والمحمدين.
وختاماً، أقول بأن قطر تعاملت حتى الآن مع الأزمة بذكاء ومهارة على نحو يزاوج بين نعومة سنغافورة و صلابة كوبا؛ ولكن لا أحد يستطيع التنبّؤ بما ستؤول إليه الأمور. الموضوع يتعلق بالعلاقات الدولية في أبشع وأخطر صورها المتمثلة في لعِب الكِبار، واللعِب مع الكِبار، والأخطر من ذلكـ كلّه اللعِب بالكِبار(!) واللعِب بالكِبار عرفناه صناعة محتكرة في يد إسرائيل قبل أن يدخل المحمدان ساحة اللعِب بالرئيس اترمب !
والله وحده يعلم ماذا سيحصل غدا؟ كيف؟ ومتى؟