هنالك أكثر من عامل صريح كان كفيلا لوحده أن يؤثر سلبا على عمل اللجنة الانتخابية . و من هذه العوامل على سبيل المثال لا الحصر:
أولا: تغيُّر طبيعة تشكيلة اللجنة من أساسها التي تحولت دون سابق إنذار من لجنة فنية تختار أعضاءَها الاحزابُ السياسية المتحاورة من الاغلبية و المعارضة على أساس " الكفاءة و الاستقامة الأخلاقية و النزاهة الفكرية و الحياد و التجربة " إلى لجنة سياسية يكون فيها الحكماء ممثلين مباشرين للاحزاب المتحاورة.
ثانيا: تعثر العمل لمدة طويلة في بداية مأمورية التشكيلة الجديدة بسبب غياب الرئيس السابق لأسباب تتعلق بصحته .
ثالثا: التأخر الكبير في اكتتاب العمال بفئاتهم الثلاث: هيأة المساعة الفنية للجنة التسيير من خبراء و غيرهم، و طاقم العمال الدائمين، و الفروع الجهوية و المحلية.
رابعا: غياب الخبرة اللازمة على كل مستويات الهرم نظرا لظروف خاصة أدت إلى إبعاد بعض ذوي التجربة من العمال السابقين و تغليب
معيار الانتماء الحزبي على معيار الكفاءة عند اختيار معظم العمال الجدد.
رابعا: انعدام آلية صالحة للتعاون الفعال مع الشركاء من الادارة أوالتشاور الصريح مع الفرقاء من الاحزاب السياسية و المجتمع المدني.
و في هذا المعترك العسير بدأ الاحصاء الاداري مؤذنا بانطلاق الموسم الانتخابي و كانت النتيجة أن عمليات الاحصاء لم تبدأ بصورة فعلية الا في الاسابيع الثلاثة الأخيرة من الشهرين المحددين بموجب القانون.
و بينما الناس في حيرة من أمر اللجنة و الانتخابات ، إذ فوجيء الجميع باستقالة الرئيس ديدي ولد بو انعامه تحت وطأة المرض و تعيين
الوزير محمد فال ولد بلال خلفا له.
استغرب البعض تقلد منصب من نصيب الأغلبية بموجب المحاصصة الحزبية للوظائف ،من قبل رجل قادم من صميم المعارضة غير المحاورة و بالذات من قطب الشخصيات المستقلة في المنتدى.و بمعنى آخر تعجب الناس من غبن بهذا الحجم تتعزز به مكانة المعارضة في اللجنة فتضم منصب الرئيس إلى منصبيْ نائب الرئيس و الامين العام للجنة.
و لكن السياق المعقد للأمور و بريق الأمل اللائح من شخص الرجل سرعان ما ساهما في تجاوز هذا الهاجس العابر . و بقدرة قادر تحول الرئيس الجديد رمز ا لطوق نجاة يتشبث به الجميع في الأغلبية و المعارضة للنجاة من خطر داهم يتهدد الديمقراطية و الوطن.
و كنا جميعا معشرَ المشفقين نتشوف من هذا المنقذ القادم في آخر المطاف إلى شجاعة غير مسبوقة ليس من أجل تأجيل الانتخابات كما كان يتوقع المتجاهلون للعقبة الدستورية في فاتح اكتوبر، و إنما لصنع المعجزات بتنظيم هذه الاستحقاقات المتزامنة في الاجل المعلوم وفق البرنامج المرسوم.
أظهر الرجل منذ اللحظة الاولى أنه جدير هو و فريق الحكماء برفع التحديات الجسام المنتصبة أمامهم .و هكذا سرعان ما تدارك ما أمكن تداركه و تبوأ مكانه حكما بين الحكماء. نجح القائد الجديد في حسن تسيير الشؤون الداخلية في لجنة التسيير و ما ذلك باليسير و أحكم قبضته على العملية الانتخابية على غرة من الزمن ،فأشرف على تحضيرها بجدارة.
ثم عمد الرجل بعد ذلك الى الشركاء فانتزع بالرفق حسن تعامل الادارة في الدولة و اكتسب بالود ثقة الاحزاب و نال بالمرونة مهادنة مختلف هيئات الصحافة والمجتمع المدني و واصل بتواضع صلاته المعتادة مع مختلف وسائط التواصل الاجتماعي يدافع عن نفسه تارة و تارات يدفع بالتي هي أحسن.
و كانت نشاطاته الدائبة على سائر الجبهات ينتظمها سلك واحد هو الرأي الثاقب و المرونة الحازمة و الأخلاق الرفيعة.
نجحت اللجنة الانتخابية برئاسة الوزير محمد فال ولد بلال في تنظيم الشوطين في الأجل المرسوم لكل منهما و ذلك في خمسة اقتراعات متزامنة شارك فيها أكثر من 1400000 ناخب و تنافس فيها مئات الاحزاب و ائتلافات الاحزاب وو بلغ عدد مكاتب التصويت 4080.فكيف تحقق له ذلك ؟
أعتقد شخصيا أن ذلك ما كان له أن يتحقق لولا التحسينات الفنية الجوهرية التالية التي مهد لها بالاجراءات السالفة:
أولا:شهدت المحاضر و مستخرجاتها تحسينات ملموسة تمثلت في ظهورها لأول مرة و هي تحمل أسماء اللوائح المترشحة مطبوعة إلى جانب شعاراتها الدعائية و هذا من شأنه أن يخفف الجهد عن رئيس و أعضاء المكاتب الذين أصبح عملهم يقتصر على مجرد كتابة الأعداد التي حصل عليها كل مترشح . و تتضمن المحاضر لاول مرة كذلك تشكيلة المكتب بالاسماء معززة بالرقم الوطني لكل منها و رقم هاتفه و توقيعه.و من شأن هذا الاجراء الجديد أن يكون له وقع معنوي يشكل ضمانة للشفافية.
و بهذا التحسين الملحوظ كذلك يصبح لدى رئيس و أعضاء المكتب فسحة من الوقت ظلوا يفتقرون إليها من أجل التفرغ للأهم أي تعبئة خمسة محاضر و عدد من مستخرجاتها يوازي عدد من حضر من ممثلي اللوائح المترشحة.
ثانيا: أصبحت إلزامية تسليم الممثلين الحاضرين مستخرجات من محاضر عمليات الاقتراع صريحة أكثر من أي وقت مضى و في المقابل يلزم المستلم بالتوقيع بما يفيد الاستلام.
ثالثا: يقتضي تعدد الاقتراعات احتمال أن تبلغ عملية التصويت حدا يضيق معه الحيّز الزماني المرسوم عن عدد المسجلين في المكتب .. و في مواجهة هذا المشكل المحتمل جاءت التجربة الانتخابية الجديدة بمبادرة جديدة تقضي بخفض سقف المسجلين في المكتب إلى 500 مسجل فقط بدل 800 كما كان من قبلُ.
رابعا: و بخصوص مركزة النتائج على مستوى اللجان المحلية في المقاطعات ، تم السماح لأول مرة لممثلي المترشحين بحضور مركزة النتائج على مستوى المقاطعات و هو امتياز ظل حكرا على الانتخابات الرئاسية دون غيرها.
خامسا: في ما يتعلق باستقبال النتائج و مركزتها أبدعت فرَق المهندسين بقيادة الدكتور المهندس الفاروق في تسخير البرامج المتطورة المتاحة من أجل تبسيط الاجراءات و تسهيل العمليات و تدقيق الحسابات.
وهكذا كان بحوزة كل لجنة محلية في المقاطعة برنامج مثبت على الحاسوب تستقبل عليه النتائج فيكفيها تلقائيا مؤونة تنفيذ العمليات الحسابية و استخراج عدد الاصوات المعبر عنها و نسبة المشاركة و النسبة التي حصل عليها كل مترشح بدون أي هامش للخطأ.
سادسا: و في ما يخص مركزة النتائج الوطنية على مستوى الادارة الفنية المختصة، فقد أدخلت جملة من التحسينات الفنية التي تضمن سرعة الأداء و دقة الحساب و تأمين الشفافية.
و بموجب تلك التطبيقات أتيح للصحفيين مواكبة النتائج طوال العملية إذ كان بوسع المهندسين ابراز و سحب و إرسال أي نتيجة مجملة أو مفصلة في أي وقت و في أي دائرة انتخابية بالنسبة لأي اقتراع.
سابعا: بالنسبة لتصويت القوات المسلحة و قوات الأمن ، جرى تحسين مهم يتعلق بتأمين صناديق الاقتراع في الفترة الفاصلة بين انتهاء العمل في اليوم السابق للاقتراع العام
إلى غاية موعد الفرز المتزامن في اليوم الموالي بالنسبة للجميع.
كانت الاجراءات تلزم اللجنة بأن تضع كل صندوق اقتراع في حاوية من الفولاذ منفردة ذات حجم كبير و وزن ثقيل ،و تتعدد هذه الحاويات بتعدد صناديق الاقتراع فتصير مثلا خمس حاويات على الاقل في مكتب الاقتراع الواحد بالنسبة للانتخابات الحالية.. و على ذلك الاساس فإن تجهيزات المكتب الواحد من هذه الحاويات، تفوق حمولة السيارة رباعية الدفع العادية!
و بموجب التحسين المستحدث أصبح بوسع ذات السيارة أن تتسع لأضعاف الحمولة المذكورة نظرا لتصميم حاوية حديدية جديدة تؤدي نفس الغرض بوزن أخفَّ و ثمن أقلَّ و بإتقان أكثر.
ثامنا: مراقبة الانتخابات
حُظيت مراقبة الانتخابات هذة المرة بتسيير أكثر إحكاما أحسنت تسييره رئيسة الغرفة الفنية و لجنتها الفنية المساعدة.و قد عبر المراقبون الدوليون و الوطنيون كما لم يعبروا من قبل عن مدى ارتياحهم بما تلقوه من عناية.
هذا أساس التحسينات الفنية المستحدثة ابان هذه الانتخابات في مواجهة التعقيدات التي تكتنفها الاقتراعات الخمسة المتزامنة و بفضلها تم تنظيم الشوطين في ظروف ليست مثالية و لكنها مرضية و أعلنت النتائج في وقت ليس قياسيا و لكنه مقبول و تم تنظيم الشوط الثاني في تاريخه المحدد.
هذه وجهة نظري كخبير مستقل ساهمت قدر جهدي بالرأي و المشورة في إطار عقد محدود .
و لا يفوتني هنا أن أسجل بارتياح كبير أن المجلس الدستوريَّ انتدب لاول مرة هو الاخر قضاة تسلموا باسمه نسخه المفروضة من محاضر عمليات التصويت على امتداد التراب الوطني.
فيا حبذا لو أنه شفع تلك المبادرة الطيبة باحتساب نتائج الانتخابات التشريعية على أساس تلك المحاضر و قابلها بالنتائج الصادرة عن اللجنة الانتخابية لرصد الفرق المحتمل. بذلك فقط ننفذ إلى روح القانون الذي يعدل في قَسمه المحاضر فيوزعها بالتساوي بين الجميع في نسخ متطابقة في الشكل و المضمون.
و وددتُ لو أن المحكمة العليا كانت قد ظفرت من محاضرها بأكثر مما قد زودها به القضاة المحسنون الثلاثة المنتدبون من قبل المجلس الدستوري ذوو المبادرة الشخصية في استجلاب تلك المحضر مجَّانا.يا حبذا لو أنهم حذووا حذو المجلس الدستوري مستقبلا في اتخاذ الاجراءات المناسبة لاستلام هذه المحاضر في الوقت المناسب و اعتمادها أساسا لحسابات منفردة للنتائج كذلك.
و في الاخير أخلص فأقول بأن تعداد المحسنات لا ينفي النواقص التي هي موجودة أخطرها نقص التكوين على كل المستويات وخاصة لدى رؤساء و أعضاء مكاتب التصويت هؤلاء الوكلاء الأخطر أمرا ، الأقل أجرا الذين لا يكاد العقد معهم يتجاوز الشهر و لا يكاد تعويضهم يبلغ الحد الادنى للرواتب و مع ذلك فهم يلتحقون بنا في آخر المطاف ليتحكموا في مآل العملية برمتها.
بقي أن نعرف أنه آن الأوان لان نراجع النصوص التشريعية و التنظيمية المتعلقة بالانتخابات لنلائمها مع الواقع و المستجدات. آن لنا أن تكون لنا مدونة انتخابية متكاملة .. فلانعدام هذه المدونة و عدم ملاءمة النصوص نصيب ذو بال في ما يشوب العملية الانتخابية من نواقص. فيا حبذا لو بادرتم سيدي الرئيس إلى تدشين الحلقة القادمة من الدورة الانتخابية بمباشرة صياغة نص أول مدونة انتخابية موريتانية و إذا سألكم سائل عن المسوغات فذكروا السائلين بأن
أيا من التقارير السابقة الصادرة عن اللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات منذ إنشائها حتى الان لم يخل من المطالبة بسد النقص الناتج عن غياب ذلك النص .
رحم الله السلف و بارك في الخلف.