برأيي أن اعتزاز المعارضة، على اختلاف آلياتها في الترشيح، بنتائج هذه الانتخابات مُبالغٌ فيه، فشوكتها في الظروف العادية، وأقول العادية، قوية، إذ لا يمكن أن ننسى أنها كانت قاب قوسين أو أدنى من هزيمة ولد الطايع في رئاسيات يناير 1992، أيام كان ولد الطايع عادياً، أي قبل أن يجمع صفة رجل المؤسسة العسكرية، ورجل التحالفات القبلية و"المخزن والدولة العميقة".
كادت المعارضة أن تعصف بولد الشيخ عبد الله، مرشح المتنفذين في المؤسسة العسكرية، حين تعاملت معه على أنه مرشحٌ عاديٌ، ليس عَصياً على المنازلة، ولاحقاً كانت المعارضة قادرة على أن تهزم المؤسسة العسكرية إلى غير رجعة بمنعها من الترشح، قبل اتفاق دكار.
استعدتُ شريط ذكريات عشتها بكل تفاصيلها، تارةً معارضاً، وتارة صحفياً، له علاقاته الواسعة والمهمة برجالات المخزن وبمسؤولين ووزراء، ثم بجنرالات وازنين.
تمعنتُ في واقع الحال منذ 1992، فإذا بي أمام طيف سياسي، بلا يمين أو يسار، يبحثُ عن مظانِ السلطة، وفي كل مرة يفقد فيها البوصلة، يتفرق أيادي سبأ..عتاة المخزن وقفوا مع ولد داداه ضد ولد الشيخ عبد الله، وكانوا واثقين من أن جناح الأول في الجيش سيطيح بالأخير.
تابعتُ تسللهم فرادى إلى ولد الطايع، عام 1992 ، ونزوحهم عام 2008 جماعات إلى ولد عبد العزيز، الذي نقل لي من أثق فيه بأنه قال في بلاطه الخاص ذات يوم "إن البيظان موالون للرئيس سواء أعطاهم أم منعهم".
تذكرتُ أن رجالات المخزن في أيام الرئيس ولد الشيخ عبد الله الأخيرة، كانوا مرتبكين، إلى درجة إعلانها صراحة، لسبب وجيه، وهو حدسهم لانتهاء حكم الرجل المدني، فالمخزن لا يمكن أن يسير برأسين، كما علمتهم التجربة.
وفوا بعهودهم أم نكثوا بها، لا يهم..سيتحدث عنهم البعض ذماً، ويسمعهم الاسطوانة ذاتها: خونة، منبطحين، رموز فساد..كل هذا غيرُ مهم في حسابات المغنم..ثم إنهم سيتحولون إلى زعماء ومناضلين متى قرروا معارضة النظام..لستُ بحاجة إلى إعطاء أمثلة.
ما أريد أن أصل إليه هو أن ولد عبد العزيز ماضٍ في إضعاف نظامه ونظام سلفه ونظام خلفه، بأمور ثلاثة:
- تحييده لما كان يعرف بالناخبين الكبار، زعماء القبائل ووجهاء المناطق الذين كانت الرعية، في وقت من الأوقات تأتمر بأمرهم وتنتهي بنهيهم، حين خلف من بعدهم خلفٌ، من الدرجة القبلية الثانية، يداه مغلولتان، ولا تاريخ له في الزعامة، وهنا تم ضربُ المؤسسة السياسية التقليدية التي ورثها ولد الطايع، ونمت في عهده..وبذالك أصبح الناخبون في القرى والأرياف، والذين كانوا يصوتون رغَباً ورهباً، كاملي الإرادة أمام صندوق الاقتراع.
- قبوله بتجديد هيئات حزبه القاعدية على أبواب الانتخابات، ومواقفته على ترشيحات حزبه الهزيلة والضعيفة في بعض المناطق، ورهانه على قوة الحزب وقوة رجال الرئاسة المقربين، وما العقيد المتقاعد الشيخ ولد بايه إلا مثال لنفوذ مزور، مستمد من القرب من الرئيس، وما نتائجه في الشوط الأول من الانتخابات إلا رسالة غير مشفرة للرئيس نفسه.
- توليه لقيادة حملة حزبه الانتخابية، كان مفيداً جداً للحزب، لكن تماهيه مع حزبه الضعيف اليوم، يفقد الرئيس الكثير من وزنه وهيبته السياسية ومصداقيته لدى المتذمرين من ترشيحات الحزب، خاصة أنه ربط بين التصويت للحزب والتصويت له هو شخصياً.
والنتيجة بالجملة هي أن ولد عبد العزيز، بتحطيمه أغلب الأصنام التي كانت تحول بين المرء وخياره في الانتخابات، بالتزامن مع تأكيداته عدم الترشح لمأمورية ثالثة، قد مهد الطريق لتناوب، آمل أن تُغتنم فرصته لتحطيم باقي الأصنام.