تَأْبِين..
الشِّيخْ ولد أحمد عَيْشَه "يَـيَّ" سُلْطَانُ العُقَلَاء..
(تَرْجَمَةٌ مَآثِرِيَّةٌ مُقْتَضَبَة)..
في فواتح عشرينيات القرن العشرين الميلادي المنقضي وُلِدَ الشيخ ولد أحمد عيشه "لِأَمَجَارْ" المغفري المجاهد: سيد أحمد ولد أحمد عشيه لَمْحَمَّدِي العلبي التروزي..
كان سيد أحمد ولد أحمد عَيْشَه رحمة الله عليه مجاهدا للاحتلال الفرنسي، قاتل في عُصبة الأمير المجاهد أحمد ولد الدَّيْدْ، وشهد معه مشاهده، إلى أن "كَاتَبَ" الأمير، وهدأت المقاومة في الجزء الغربي من موريتانيا، فتفرغ سيد أحمد لشؤونه الخاصة، على منهج أبناء البيوتات الكبيرة من العرب والزوايا في منطقة بتلميت..
فمن الله عليه ـ ببركة جهاده وتعففه ـ بالمال والولد، مع القوة البدنية، وهي مما يمن الله به على عباده الصالحين، قال الله تعالى: " وَزَادَه بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ.."، مع حضور ذهني ظل معه إلى وفاته، وذكر حسن في الناس، ومعرفة واسعة بما على " الْأَمَجَارْ" أن يعرفه من كل فن..
نشأ الشيخ في كنف والده، وحرص الوالد على تربيته وإخوته وفق نظام مزدوج صارم، يضمن الأخذ بقيم العرب المغافرة من قوة وشجاعة ونبل، وبطرف وافر من شيم الزوايا العلمية والثقافية، فكان في خيمة سيد أحمد "أمْرَابَطْ" يدرس الشيخ وإخوته وأخواته القرآن الكريم، وفرض العين..
ومن منهج سيد أحمد الصارم في تربية أبنائه أنه منعهم في الطفولة إلى الشباب من الانتعال "لبس النعل" مطلقا، في الحر والبرد والسفر والإقامة، وفي الأرض الرخوة، والصلبة " أَرْضْ الحَجْرَه"، وفي النبات والجدب..
وفي الشتاء يمنعهم من شرب الماء مطلقا "إِزَازُ" ـ والعبارة للشيخ رحمه الله حين يتحدث عن ذلك ـ فتنحصر تغذيتهم في لبن الإبل المُطَعَّمِ، واللحم الطري (الوحش ـ الضأن ـ الإبل)..
وفي الصيف يمنع عنهم اللبن مطلقا، ويتركهم على الماء فقط، والوَدِكِ وَالتِّيشْطَارْ، وحين يأتي "الكَيْطَانَ" يدخل مع ذلك التمر..
وزود كل واحد منهم بمدفع "بندقية" خاصة به، ودربهم، وعلمهم فنونها، كما حرص على تعليمهم جميع فنون الحياة البدوية المعروفة، من ذبح وسلخ، وامتياح الماء، وركوب الإبل والخيل، وغير ذلك..
في بداية شبابه التحق الشيخ بالمدرسة النظامية، بصفته أحد أبناء الأعيان، وأهله ذلك للانضمام لاحقا لسلك التعليم الأساسي، معلما للفرنسية، مساهما في تكوين أجيال من أطر الدولة الموريتانية الناشئة..
ثم صحب العلامة الشيخ محمد عالي ولد عبد الودود رحمة الله عليه، وتتلمذ عليه ودرس عليه، واجتهد الشيخ محمد عالي في تدرسيه، وأصبح الشيخ من رواة نوادر وملح وفوائد العلامة محمد عالي ولد عدود رحمة الله عليه..
من كل ذلك تكون عقل الشيخ ولد أحمد عيشه الراجح، وتشكلت معارفه الواسعة، فكان ميمون النقيبة، مقبولا، جامعا، في سرعة بديهة وقوة حجة وحضور جواب، فكان بكل المقاييس "رَاجَلْ أَجْمَاعَ"، وكان من أفراد الزمان، وألباء الرجال..
في مجلس عزاء ابن عمه المقاتل البطل المرحوم محمد سالم ولد سيد ولد المختار (دَدّاهْ)، جاء في المعزين الشيخ عبد الرحمن ولد محمد ولد الشيخ سيد المختار ولد الشيخ سيدي (الحكومة) علما رحمة الله عليه، وبعد تعزية رائعة، نَبَّه إلى أشياء تعودها الناس في التعزية يجب الاقلاع عنها من قبيل الجلوس الطويل للتعزية، وإطعام الطعام أثناء ذلك، فرد عليه الشيخ: "أنتم أشياخنا وقدوتنا، ورأينا الأمر عندم فتبعناكم"، فقال الشيخ عبد الرحمن: "نحن تأتينا جماعات من بعيد، فنعاملها معاملة الضيوف"، فقال الشيخ: "هَامْكُمْ يَشِيخْنَ تَنْسَتْرُ أَنْتُومَ فَظْيَافِينْكُمْ أُنَنْكَشْفُ نَحْنَ فَظْيَافِينَّ"، فقال الشيخ عبد الرحمن: "آنَ ذَاكْ الْيَخْلَكْ هَكْ أفْذَاكْ مَانَحْظَرْ فَجْمَاعْتُ"، فرد الشيخ: "حَتَّ نَحْنَ هَذُ الْيَخْلَكْ هَوْنْ أَفْذَ مَانَّ حَظَّارْ فَجْمَاعْتُ، النَّاسْ الْجَايَّ مَاهِ أَمْشَاوْرَتْنَ أَعْلَ أَمْجِيهَ، أُذُلِّ هَوْنْ إِعَامْلُوهَ مَاهُمْ أَمْسَوْلِينَّ"، فأمسك الشيخ عبد الرحمن بيده، وقال: "آنَ نَعْرَفْ عَنَّكْ حَاذَكْ أُجَوَابْ"..
في التجاذبات التي عرفتها بتلميت كان للشيخ موقف محدد صارم، لكنه يعبر عنه بالمعروف، فلم تنقل عنه كلمة غير لائقة بحق أي أحد، وظل على صلة بجميع الأطراف على أساس التقدير والاحترام، وكان يسعى إلى ما فيه المصلحة العامة للمدينة وسكانها، وإلى ما يجمعهم، وتميزت مداخلاته في الاجتماعات العامة بالوضوح والصراحة، وطرح مشاكل الناس، والانحياز للضعفاء وأصحاب الحقوق..
ظل الشيخ ولد أحمد عيشه محتفظا بحضوره الاجتماعي والذهني والعقلي، وكان حريصا رغم السن على شهود مجامع الناس..
رفض إلا الإقامة في بتلميت، حيث منزله في الجانب الغربي في تربة يتنفس حصاها حبه، بين جيران ومعارف أحسن جوارهم عقودا..
وكان حين يُرَاوَدُ على الإقامة في نواكشوط، يعلق بظرافته، وبلاغته: "أهَلْ نْوَاكْشُوطْ إِتَوْمْزُ لَكْهُولَ، إِدِيُروهُمْ أَفْكَتْ بَيْنْ أَرَبعْ أَحْيُوطْ وِتَمُّ إِحِشُّولْهُمْ، وَانَ مَانِ مُتَوْمَزْ"..
من مآثر الشيخ رحمه الله، الشاهدة على حفظه لعهد أشياخه، قيامه في سنواته الأخيرة بشراء الأرض التي كان يقيم فيها الشيخ محمد عالي ولد عدود في بتلميت، خوفا من أن يسكنها بعده من لا يعرف مكانة من كان يسكنها.
نشأتُ على حب وتقدير الشيخ ولد أحمد عَيْشَه (يَيَّ)، فقد كان بين العائلتين من المحبة والصحبة مالا يحيط بوصفه قاموس لغوي، وفي آخر زيارة له، تأوه لما تسميت له، وتمثل:
أولئك آبائي فجئني بمثلهم <> إذا جمعتنا يا جرير المجامع..
إذا كان ما زال في البعلاتية مكان لفاضل من الرجال، فقد حله اليوم الشيخ ولد أحمد عيشه رحمه الله، وإن قول التيمي القديم في منصور بن زياد لهذا يوم تمثله:
عَجَبًا لأربع أذرع في خمسة <> فِي جَوْفِها جَبَلٌ أشم كبير
هذا، والشيخ ولد أحمد عَيْشَه رجل مؤمن راسخ العقيدة والإيمان، كما كان يقدم نفسه في بداية شبابه "عَرْبِ مَعْلُومَ عَقِيدْتِي"، عابد لله تعالى، صادق الحديث، عمل صالحا من بر وصدقة وصلة رحم، وإصلاح بين الناس نحسبه كذلك، ولا نزكيه على الله، ثم إن الله أنعم عليه بأزيد من تسعين سنة في الاسلام، ورزقه أبناء، من سبقه منهم فأجر صبره في ميزان حسناته عند الله، والذين خلفهم بعده ـ أطال الله أعمارهم ـ هم من عمله الصالح الجاري عليه بإذن الله..
اللهم إن الشيخ ولد أحمد عيشه في ذمتك، وحبل جوارك، فقه فتنة القبر، وعذاب النار، وأنت أهل الوفاء والحق، فاغفر له، وارحمه، إنك أنت الغفور الرحيم..
القاضي أحمد عبد الله المصطفى