في الحياة أحداث لا يعرف الإنسان درجة تأثيرها فيه حتى يعيشها حقيقة فإذا عاشها عَرَفَ بُعدَ ما بين التخيل والتحقق والافتراض والوقوع ولعل من تلك الأحداث رحيلَ الأحبة وانتقالَهم إلى دار البقاء ، عند رحيلهم نجد أنفسنا أمامَ الأمر الواقع والقضاء الذي لا يرد ونودعهم ونحن لا نكاد نصدق أنهم فعلا رحلوا ، تتداعى من الذاكرة والخيال صورُهم وشخوصُهم ملامحهم ونغماتهم ، آراؤهم ومشاعرهم التي كانوا يعبرون عنها ، أسئلتهم و مواقفهم البسيطة ، رصيد ثري من الذكريات والأحداث وحركة الحياة وهم جزء أساسي منها جعل وجودَهم بيننا ووجودنا معهم كالقانون الرياضي الذي لا يقبل النقض ، لم نعد نعرف حياةً ليسوا فيها بل لا نتصور وجودَها.
بعد سماع خبر انتقالهم وتأكده تنتابنا في بعض اللحظات نوبة من الإنكار وتعرض المخيلة من جديد صورة الحياة الحاضرة وهم فيها كما كانوا في الحياة الماضية ، نعيش لحظة تعلق بهذا الطيف الجميل ثم تدْهَمنا الحقيقة.
هل كان هذا هو الخط الذي رسمناه لتسير حياتُنا وحياتُهم عليه ؟ ثم ماذا بعدُ أيها الموت الذي لا يترك حبيبا إلا اختطفه من بين أحبته واستأثر به ؟ مشاعر نعيشها كلنا في مثل هذه الظروف ثم لا تنطفئ نارها المضطرمةُ إلا بالأُوِّي إلى ركن التسليم والرضى وانقياد زمام القلب إلى مشاعر من نوع آخر تنظر للأمر من زاوية أوسعَ وأرحبَ وتُطلُّ عليه من شُرُفات الإيمان بالحكمة من وراء كل حدث وبالرحمة السارية في كل تدبير يقع في الوجود .
رحل الوالد الحبيب عبد الله بن بودن إلى ربه في يوم الجمعة الماضي بعد عمر عاشه في ظل حياة دينية و خُلُقية عز نظيرها في هذا الزمان،
كان رحمه الله أجلَّ أصحاب الشيخ و أكثرهم اختصاصا به وأشدهم اهتماما بمصالحه وإكراما لتلامذته وعناية بزواره وكان لإخوته وقرابته والدا حفيا وأخا وفيا وحبيبا غاليا وكان العطف والحُنو هما قاعدته في معاملة الصغير والكبير والقريب والغريب فالمصيبة به خاصة و عامة غير أن حكمة الله تعالى التي لا ترتقي العقولُ أسوارَها ولا تقوى البصائر على الإحاطة بها وإن لَمحتْ من بعيد أنوارَها هي التي اقتضت ذلك فاختارت له التقدم قبلَنا واختارت لنا البقاء بعدَه و سيأتي اليوم الذي يستوي فيه السابقُ واللاحقُ والمتقدمُ والمتأخرُ.
أعتقد أنه من حسن اختيار الله له أن يسبق شيخَه فلم يعشْ في حياة ليس فيها الشيخُ وما أو حشها من حياة ولم يجد نفسه في واقع تلتبس فيه الحقائق وتشكل الأمور وتختفي الأعلام ويحار الحليم ثم لا يرى مرشدا يدله على الطريق .
ثم نال شرفَ الانتقال إلى تلك الدار في يوم الجمعة وفي الحديث المرفوع الحسن الذي رواه الترمذي وغيره : "ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر" أي حفظه من عذابه وسؤاله.
من الثابت المؤكد أن الحياة مرحلة مؤقته وأن وجود الإنسان فيها لمهمة يؤديها وأن مستقره في الدار التي لا يدخلها إلا من بوابة الموت وأنها أشبه شيء بغرفة اختبار فإذا قمنا بتحرير الإجابات الصحيحة كنا أسرع ما نكون خروجا!
بل الموت تحفة للمؤمن وخلاص من قفص الطائر وخروج من سجن الدنيا وعودة إلى المضارب و الأوطان ، ونُقلة إلى عالم بريء صافٍ لا حسدَ فيه ولا عداوةَ ولا ضغينةَ ولا مشوشَ ولا منغصَ ليس هناك خوفٌ ولا حزنٌ ولا فقرٌ ولا ذلٌّ ليست هناك كلمة جارحة ، ولا إنسان يغتابك وينهش لحمك من ورائك ، ولا آخر يحسدك على نعمة أكرمك الله بها ، ولا ثالث يفسد بينك وبين من تحب ، ولا رابع ولا خامس ، فكيف لا تطيب نفوسنا بانتقال أحبتنا إليه ؟! وكيف لا نتمناه نحن لأنفسنا ؟ في حياة تتلاطم أمواج فتنها وصروفُها تتوسع ويقوى سلطانها يوما بعد يوم
في الحقيقة نحن لا نرى من صورة الوجود الواسع الرحيب إلا جزءا صغيرا من الحاضر المشهود ونغفل عن جزئها الغائب وجزئها المتعلق بالمستقبل أيضا ، هناك آلاف التفاصيل و الاعتبارات التي يحيط بها علم الله ويُرتب عليها تدبيره تغيب عنا ، ثم تستغرقنا اللحظة الحاضرة فتتفجر في نفوسنا معاني الأسى على الفائت والأسف على الحبيب الغائب ومن حق النفوس أن تأسى وتأسف ومن حق العين أن يفيض ماؤُها والإسلام لا يعترض على مشاعر الحب والوفاء ولا يصادر بشريتنا ولكنه يرفعنا إلى آفاق من الاتصال بالله في كل شدة تهجم علينا فيكون لنا من البلاء أجنحة نحلق بها في عوالم سامية مرتفعة ونتصل بمعان ما كان يتاح لنا أن نتصل بها لولا الخطب الذي ألم بنا فزلزل كياناتنا ونفض الغبار عن أرواح طالما أخلد بها سكونُ الحال ووداعةُ الحياة إلى حضيض حظها فانقطعت عن أفق وجودها الحق ، في هذه اللحظة بالذات ينقلب البلاء إلى أعظم نعمة يمكن أن تنالها يد ويكون أعظمُ بلاء يصيب الإنسان حقا هو خروجَه من هذه الحياة بغير نصيب من هذا العطاء الذي لا يأتي لشفوفه وشرفه إلا في صورة البلاء!
لا تتحقق عبوديتنا إلا بمزيد من الاستسلام لأحكام القدر ولا يكون ذلك إلا في المكاره ، تضيقُ وتتلاشى دوائر و زوايا العلاقات والصلات في جنب العلاقة التي تربطنا بالله ينقلب كل شيء وسيلة وآلة ،تنعدم الإضافات والنِّسبُ والقيود ، وتكون هذه العلاقةُ هي الغايةَ الوحيدةَ والوجهةَ التي لا تشاركها وجهةٌ أخرى ، ويغيب كل شيء غيرها ثم يتمادى في الغَيبة حتى تغيب ذواتنا أنفسُها في هذا الشهود الذي يتوقف عنده الزمان ويختفي الشعور بالأكوان .
تظهر لذوي الألباب على مهلٍ نماذجُ من الحكمة الغامضة وينتشر أمام البصائر في تدرج ما كان مطويا من معاني الرحمة في ما حصل فيزداد استواء القلوب على مراكب الرضى والتسليم.
وبعد ذلك تمضي الحياة في رحلتها بأهلها وينجبر الكسر وتجف العبرةُ ويعود كل شيء إلى ما كان عليه و يكون من ألطاف الله تعالى عِوضٌ عن كل مفقود وخلفٌ من كل فائت وتبقى النقوش التي خطها البلاء في صفحة الروح زينة لها في الملأ الأعلى وعَزاء لها في العالم الأدنى .