ليس احتراما للشعب أن لا تعتبره مسؤولا، إن لنا القادة الذين نستحقهم" (هيغل)
تشبه بعض نخبنا ومنها السياسة تحديدا إلى حد بعيد الأعشاب الضارة التي تنبت بمحاذاة الأنهار. وراء خضرتها الآسرة و انتشارها التوسعي الكبير مضار تهدد النهر و ساكنته و محيطه الذي يستمد منه حياته و ينفذ من روحه فيه لبقائه. و يشبه شعبنا طين الأرض التي يخفي وراء خشونة ألوانه الرمادية المنفرة خصوبة الحياة و عطاء الطبيعة.
لا تجيد نخبنا الحرث مع وفرة الماء و لا تحسن الصيد إلا في المياه العكرة ... حقيقة مرة بقدر القسوة التي تخفي ولكنها قيمة ومبصرة بقدر نصاعتها، لاستشراف المستقبل المتحرر من هيمنتها، بدوافع الانعتاق ورغبة الانطلاق في رحاب التحول المنشود.
و إنه ليس ـ بمنطق العصرـ ما هو أقوى استيضاحا للأمر من أديم الساحة المعرفية المنوط بها إشاعة العلم و الاستفادة من عصارة فكر أصحابه من جهة، و من الورش العملية لجني ثمار صروحها المشيدة و المنجزة من قبل مهندسيها و مخططيها و مسيريها برهانا أقطع و لا حجة أنجع و لا دليلا أقنع لاستظهار هذا الحضور البناء و تلك الضرورة القصوى من جهة أخرى.
هل من وجود لورش يديرها "مهندسونا" و "مخططونا" و "رجال أعمالنا" المغمورين و الضالعين في الفساد من احتيال على المال العام حتى النخاع و الغارقين في السياسة من دجل و أدعائية حتى الأذنين لنسلو، بما تحققه من أعمال، عن عاهات التخلف التي تقعدنا عن ركب للأمم لا ينتظر الضعفاء في رحلته السرمدية إلى الأعالي و بؤر النور المضيئة؟
وهل ثمة من السياسيين من يتحلى بـ"كارزمية" تؤطر للصفات المصاحبة الأخرى كالإيمان المجرد و الطافح بالوطن و الثبات على القيم الحزبية المشتركة في دائرة التوجه السياسي العام الذي ينتمي إليه و تقبل الرأي الآخر باعتباره مرآة تعكس النواقص و تبرز الاختلالات و تعول على التناوب سنة مؤكدة لمواصلة المسار و ديمومة الحال.
من الصعب أن نجد إجابات تفضي إلى طرد هذه اللوحة القاتمة من الأذهان إذا ما استثنينا تلك التي قد تصدر عن بعض من يراضون بالواقع المرير مستنقعا يستمدون منهم قوتهم لوخز و تخدير المجتمع و امتصاص دمائه و استعباده لحاجة القوة الطافحة لديهم. و هي الإجابات التي إن وجدت تجافي الحقيقة بل تغالط إلى حد منع إيجاد الحلول لأزمة الوجود التي إن ظل كذلك الوضع على حاله، ستقيض أركان الدولة وتعصف بكيان هو من الهشاشة بمكان.
و إن الأدهى و الأمر في هذا السياق يظل رجوع طبقة المثقفين و السياسيين و الأثرياء إلى أحضان كل اعتبارات الماضي الطبقي و الرجعي لشحذ الذوات بأسهل و أقصر الطرق في دائرة الصراع على السلطة و النفوذ على حساب وطنية لا محل لها في إعرابهم جملة الوطن.
وها هي السياسة تنفض الغبار عن حقيقة هذه "النخب" التي تتنكر لمستوياتها المعرفية و مؤهلاتها العلمية لسباحة موسمية في مستنقعات الاعتبارات القبلية الضيقة و العرقية الحادة و الطبقية الوضيعة للوصول إلى مواقع الإمساك بالرقاب في البلديات و تحت قبة البرلمان.
و ما لم تصبه هذه القنوات الموغلة في التناقض مع روح الدولة الوطنية المستظلة بقوة القانون، فإن هذه النخب ـ المتخمة بالمال العام و الوجاهة المستحدثة بالإفراط في استخدام السلطة ـ تلجأ لتحقيقه دون خجل إلى استخدام ورقة المال لعلمها بما يعانيه مواطنوهم من فاقة و حاجة إليه. فهي إذا عملية شراء، لا تكاد تخفى، للذمم و الأصوات و ذلك عوضا عن اعتماد الخطاب السياسي السامي الذي يقر بحاجة الوطن و المواطنين إلى الأصلح و الأجدر من بينهم دون سواه و بقناعاتهم دون سواها.