التروايح "29"الختامية
سأعلق تعليقا ختاميا موجزا على سور القرآن من "النبأ إلى الناس"، تبدأ سورة النبأ بالحديث عن الحديث الذي ختمت به سورة المرسلات، هذا الحديث الذي وبخ الله من لا يؤمن به في ختام "المرسلات" هو النبأ العظيم الذي يختلف الناس فيه، وهو القرآن العظيم الذي سيعلمون حقيقته ويتفقون فيه يوم الدين، هكذا تبدأ السورة بآيات الله في القرآن لتصل إلى آياته في الكون وفي الأنفس: "أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9)" ثم تتحدث السورة عن يوم الفصل وتجلياته لتنذر من النار، وتبشر بالجنة. وتبدأ سورة النازعات بالحديث عن الملائكة التي تقبض الأرواح في سياق القسم على يوم البعث، ثم توكد هذا اليوم وتفصل في أحداثه بدءً من نفختي الصور: "يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ" مرورا بقيام الناس يوم البعث: "فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)"، وانتهاء بتحديد مصير الناس بين من هو ذاهب إلى الجنة، ومن يدع إلى النار.
أما سورة "عبس" فتبدأ بنسق مخالف لماقبلها من السور فقد نزلت في عتاب الله لنبيه صلى الله عليه وسلم على معاملة ابن أم مكتوم، حين أعرض عنه الرسول صلى الله وسلم وانشغل بأكابر المشركين رغبة في دخولهم الإسلام، فعاتبه الله على ذلك في إشارة إلى أن الله لا يعبأ بهم، وأن معاملة الضعيف الخاشع باللطف أولى من ملاينة الغني المعاند، ثم تحدثت السورة بعد ذلك عن آيات الله الدالة على وجوده منكرة كفر الإنسان رغم ما يحيط به من أدلة صارخة: "قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ" ثم تحدثت عن نعم دليل عناية الله بخلقه كما يتجلى في نعمة الماء: ") أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ" وختمت السورة بصورة مشابهة لما ختمت به سابقتيها من الحديث عن الجنة النار، ومصير الناس يوم القيام، مصورة وجوه المؤمنين المسفرة المستبشرة، ووجوه الكفار التي تعلوها الغبرة، وترهقها القترة.
وتعود سورة التكوير إلى تصوير الانفجار الكوني الكبير الذي يصاحب قيام الساعة، وما يحدث من تغير في السموات والأرض، من تكور الشمس، وانكدار النجوم، وتسيير الجبار، وغير ذلك من مشاهد يوم القيامة، لتتحدث السورة بعد ذلك عن القرآن الكريم واصفة مكانة جبريل الذي نزل به على محمد صلى الله عليه وسلم، وما يتسم به من الصدق والأمانة، موكدة كذلك صدق النبي صلى الله عليه وسلم وبراءته مما يتقول المشركون: "إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآَهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24)"، وفي السياق نفسه تسير سورة الانفطار التي تصف انفطار السماء وانتثار الكواكب وتفجير البحور وبعثرة القبور الذي هو مقدمة لمحاسبة الناس، ومجازاتهم على أعمالهم في الدنيا، ثم تتحدث سورة المطففين في بدايتها عن أسباب ورود النار بشكل تفصيلي فتتحدث عن تطفيف الكيل متوعدا متوعدة ذوي الخيانتة والغش، ثم تفصل السورة مصير الابرار "أهل الجنة" ومصير "الفجار" مبينة أنها لحظة انتقام المؤمنين من الكفار: "فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)"
وغير بعيد من سياق التكوير والانفطار تأتي سورة الانشقاق لتصور انشقاق السماء، وإلقاء الأرض لما فيها، لتحين لحظة المحاسبة، ودخول الجنة أو النار، ثم تأتي سورة البروج في سياق مختلف عن سياق يوم القيامة، فقد جاءت السماء هنا في سياق القسم بعظمتها، لا تحدثا عن مصيرها، وبعد ذلك تحدثت السورة عن قصة أصحاب الأخدود مبينة أن النار ذات الوقود من يصير أصحاب الأخدود ومن على سار على نهجهم في فتنة المؤمنين وتعذيبهم، وتأتي سورة الطارق لتتحدث عن آيات الله في خلق الإنسان وفي الكون والتي تدل على قدرته على البعث: " فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ"
أما سورة "الأعلى" فقد بدأت بالأمر بالتسبيح لله الأعلى كما يفهم من اسمها، مبينة بعض آلائه، فهو الذي خلق فسوى، وقدر فهدى..، والسورة في أمرها بالتسبيح تخاطب النبي صلى الله عليه وسلم، وقد استمرت في هذا الخطاب فطمأنته على حفظ القرآن، وأمرته بمواصلة الدعوة والتذكير، رغم أنه لن ينتفع بالذكرى إلا من يخشى، وسيتجنبها الأشقى الذي يصلى النار الكبرى.
ثم جاءت سورة الغاشية تصور ما سيحيق بأصحاب النار من عذاب، وما سينعم به أهل الجنة من نعيم، كما لفتت إلى آيات الله في خلقه الدالة على وجوده: " أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)"، كما نبهت في الختام إلى أن وظيفة الرسول مقتصرة على البلاغ وأن الحساب لله وحده.
وجاءت سورة الفجر لتصور ما حاق بالمكذبين من الأمم السالفة: "أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ..." كما صورت مصير اللاحقين بهم سواء من آثروا طريق التقى ودخلوا الجنة، ومن ضلوا الطريق ودخلوا النار، أما سورة البلد ففي بدايتها تعظيم لمكة لبلد النبي صلي الله عليه، وفيها بعد ذلك تبيان لطريق الجنة والنجاة من النار: " فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ"، وتأتي سورة الضحى معززة النجدين المذكورين في سورة البلد، وأن الأنسان هو الذي يتحمل مسؤولية الاختيار بعد أن تبين الطريقين: " وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا" وفي الجزء الثاني من السورة تأتي قصة ثمود لتدل على مصير من اختار الضلالة على الهدى، وبدل العذاب بالمغفرة.
وتلقي سورة الليل مزيدا من الضوء على طريق النجاة، حين تبين قيمة الإنفاق، ودوره في دخول الجنة، كما تبين دور البخل في إدخال صاحبه النار: " فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)..."
أما الضحى فقد جاءت في سياق تثبيت قلب النبي صلى الله عليه وسلم، وبذلك فهي تعد بعض نعم الله السابقة عليه، وتبشره بنعم أخرى لاحقة، وفي هذا السياق تأتي سور الشرح معززة لما في الضحى من نعم الله على نبيه، ومبينة أن الانفراج يأتي بعد كل غمة، وأن بعد العسر يسرا، وفي سورة "التين" قسم بالبلد الأمين الذي سبق في سورة البلد، وفي إشارة إلى أطوار خلق الإنسان الدالة على قدرة خلقه، كما فيها بيان لمصيره.
وتأتي سورة القلم لتدل على نعمة العلم التي فضل الله بها الإنسان، وكرمه بها، كما أمرت السورة النبي صلى الله عليه وسلم بالاستمرار في الدعوة رغم أنف الكفار، وفيها تهديد لمن يكذب بآيات الله ويفتن عباده عن عبادته. ثم تأتي القدر بعد القلم لترابطهما فقد نزل فيها القرآن وفضلت على غيرها من الليالي كما فضل الإنسان بالعلم على كثير من المخلوقات. وفي سورة البينة بيان لصدق رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، وعظمة القرآن الذي يتلو صحفه المطهرة كما بينت مصير من كفر بالنبي صلى الله عليه وسلم، ومصير من آمن به. وتأتي سورتي الزلزلة والعاديات لتصورا أحداث يوم القيامة، ومصير المكذبين والمؤمنين، وتأتي القارعة لتصور حال الناس في هذا اليوم " يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ"كما تصور مصير الناس كذلك، وتأتي التكاثر في السياق ذاته لتتحدث عن القيامة لكنها لا تركز إلا على النار، ومصير المكذبين، ولعل السر في ذلك أنها تتحدث عن الغافلين وحدهم الذين ألهاهم التكاثر، أما العصر فتتحدث عن مصير الإنسان المرتبط بالعمل صالحا أو طالحا، وتتحدث الهمزة عن الصفات التي تدع صاحبها في النار كالغيبة ونحوها من الأخلاق الميمة التي تنبذ صاحبها في الحطمة، وتأتي سورة الفيل لتقص نبأ من عجل لهم العذاب فعوقبوا في الحياة قبل المصير المحتوم، وفيها يمن الله على قريش رده عنهم لأصحاب الفيل، وفي السياق ذاته تنزلت سورة قريش التي تحث قريشا على عبادة الله الذي خولهم ما هم فيه من نعم، حيث أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف، وتأتي سورة الماعون وصفا لبعض الأخلاق الذميمة التي تذهب بصاحبها إلى النار كما رأينا في سورة الهمزة، حيث تذم الماعون من يكذب بالدين ومن لا يحض على طعام المسكين، كما تتوعد المتهاونين بالصلاة، وتأتي سورة الكوثر والكافرون والنصر مجتمعة مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم، حيث تذكر الكوثر بعض نعم الله عليه، وتأمره بشكرها، وتأمره الكافرون بأن يبين للكافرين أنه باق على دينه، كما ثبتوا على دينه، وأنه لن يعبد ما يعبدون، فلا حجة بينهم، وتأتي سورة النصر لتبشر النبي صلى الله عليه وسلم بالتمكين لدينه، وانتشاره في الأرض ودخول الناس فيه، أما سورة المسد فهي رد على عم النبي أبي لهب وامرأة أبي لهب اللذين كانا يؤذيان النبي صلى الله عليه وسلم، فكانت السورة إيذاء لهما في الدنيا، كما سيؤذيهم مصيرهم البئيس يوم القيامة.
وجاءت سورة الإخلاص في توحيد الله جل جلاله وتنزيهه عن مشابهة خلقه، في حين وردت المعوذتان في سياق أمر الله لنبيه صلى الله عليه وسلم بالتعوذ بربه من شر مخلوقاته بأنواعه المختلفة المفصلة في السورتين.
الدكتور: افاه ولد الشيخ ولد مخلوك