
حين صاغ باراك أوباما رؤيته السياسية في كتابه «جرأة الأمل»، لم يكن يقدّم برنامجًا انتخابيًا بقدر ما كان يضع مقاربة شاملة لكيفية إنقاذ الدولة الحديثة من شتات الانقسام، ووضع السياسة مجددًا في سياقها الأخلاقي والمؤسساتي.
أوباما يرى أن الديمقراطية لا تُصلحها الشعارات، بل العمل الهادئ: إعادة الاعتبار للقيم المشتركة، ترميم الثقة بين المواطن والدولة، تحصين المؤسسات من الضغوط، وتوسيع قاعدة العدالة الاجتماعية لتصبح السياسة فعل إنصاف لا فعل تعبئة.
في جوهر هذه المقاربة، يلتقي المسار الذي اختاره الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني — دون ادعاء أو ضجيج — مع تلك المدرسة العالمية التي تعطي الأولوية لـ إعادة هندسة العقد الاجتماعي قبل أي شيء آخر.
فمثلما انطلق أوباما من نقد الاستقطاب الحاد في بلاده، وجد غزواني نفسه عام 2019 أمام مشهد سياسي مثقل بالاستقطاب والإرهاق الاجتماعي. لكن الفرق أن غزواني لم يختر طريق الإقناع الخطابي، بل سلك طريقًا تعبيريًا هادئًا: تهدئة المشهد، تهدئة الخطاب السياسي واستعادة هيبة الدولة عبر إعادة الاعتبار لمؤسساتها قبل إعادة الاعتبار لخطابها.
ولعلّ ما يلفت في تجربة أوباما — كما في تجربة غزواني — هو أنّ كلاهما لا ينطلق من فكرة «الزعيم المخلّص»، بل من فكرة النسق العام القادر على حمل الدولة إلى برّ الاستقرار.
فأوباما يشرح أن الدستور الأمريكي ليس نصًا أيديولوجيًا، بل إطارًا يضمن التوازنات. وغزواني بدوره جعل استعادة روح المؤسسية في موريتانيا أساسًا لعهده: استقلال القضاء، ترميم الإدارة، وتخليق المرفق العمومي وتقريب الخدمات وتوزيعها بعدالة … وهي خطوات تبدو تقنية في ظاهرها، لكنها في منطق «جرأة الأمل» هي الخطوات التي تُصلح السياسة قبل أن تُصلح المجتمع.
في كتابه، يعود أوباما إلى القيم التي صنعت أمريكا: العمل، العدالة، المسؤولية، التضامن.
أعاد التذكير بها لأن السياسة، في نظره، حين تنقطع عن قيمها تفقد شرعيتها.
وفي السياق الموريتاني، ربط غزواني كل سياسات بقيم أصيلة ، و طبّقها عمليًا عبر مشروع الدولة الاجتماعية المعنية بتوسيع الرعاية الصحية، دعم الفئات الهشة، تنظيم الثروة، وتحويل العدالة الاجتماعية من شعار إلى بنية سياسة عمومية والارتقاء بها من طور النهج إلى الطور المؤسسي و القانوني ليزرعها بذلك في كيان الدولة باعتبارها استراتيجية وطنية ثابتة وليست مجرد برنامج انتخابي مؤقت.
المبدأ واحد: الديمقراطية لا تقف على قدميها ما لم تقف العدالة أولًا.
فكما تحتاج الديمقراطية إلى مأسسة تحتاج العدالة الاجتماعية إلى مأسسة أيضا لضمان بقائها ضمن كل السياسات في المستقبل.
أما الملف الأكثر حساسية عند أوباما — مسألة العرق — فقد تناوله برؤية تتجاوز عقدة الضحية وذهنية الامتياز.
وبمعنى مشابه، عالج غزواني إرث المفاهيم الاجتماعية والطبيقية في موريتانيا بنهج يقوم على جرأة وصراحة الخطاب (خطاب وادان، نداء جول، خطاب النعمة) ، وعلى دمج كل مكوّن في مشروع الدولة بدل تحويله إلى ورقة سياسية. إنها ليست مصالحة خطابية، بل مصالحة عبر السياسات.
ولا يمكن تجاهل بُعدٍ آخر تتقاطع فيه الرؤيتان:
أوباما يخصص فصلًا لتحليل بنية النظام السياسي الأمريكي، مشيرًا إلى المال السياسي، نفوذ جماعات الضغط، وفتور ثقة المواطن.
كلها أمراض لا تعرف حدودًا جغرافية.
وفي موريتانيا، جاء خطاب غزواني واضحًا في إعادة بناء الثقة عبر الشفافية، تقليص منسوب الاحتكاك السياسي، وإرساء علاقة هادئة بين الإدارة والمجتمع، وتصوراته المعلن عنها مؤخرا حول إمكانية دسترة الإصلاحات السياسية بما في ذلك استغلال المال السياسي النفوذ القبلي.. الخ.
إنها ذات الفلسفة التي نقاشها أوباما في كتابه «جرأة الأمل» حيث وصل في نهاية المطاف إلى أن السياسة أداة ترميم لا أداة نزاع.
في النهاية، لا يهدف هذا النص إلى تشبيه التجربتين، ولا إلى وضعهما في موازاة مباشرة، بل إلى إبراز أن فخامة الرئيس غزواني ينتهج — بطريقة طبيعية وغير مفتعلة — ذات الفلسفة السياسية التي انتهجها أوباما: مدرسة الإصلاح الهادئ، إصلاح القيم، تعزيز الثقة بالدولة، وتوسيع أفق العيش المشترك.
مدرسة تؤمن أن الاستقرار ليس صدفة، وأن العدالة ليست منحة، وأن "جرأة الأمل" هي أساس أي مشروع وطني قادر على البقاء.
محمد افو

