أحد المشاركين في أسطول الحرية يكتب : من كرامات الكوفية(1-2)

ثلاثاء, 28/10/2025 - 08:40

كتب المشارك في أسطول الحرية الموريتاني محمد باب سعيد سلسلة مقالات على صفحته تحت عنوان " من كرامات الكوفية " و قد جمعنا هنا الجزء الأول و الثاني 

 

من كرامات الكوفية(1)

 

كانت الساعة تشير إلى الثانية صباحًا عندما ودعت الأخ صابر، رئيس باخرتنا X1 وزميله، اللذين قاداني لتوي من ميناء بورتوبالو إلى مطار كتانيا في جزيرة صقلية الإيطالية. توجهت نحو البوابة لأفحص اللوحات الإرشادية بحثًا عن بهو المغادرة. رغم تأخر الوقت، كانت القاعة تعج بالمسافرين. تعرفت على وجوه عديدة من المشاركين في أسطول الصمود، ممن تقاسمت معهم أرصفة الميناء قبل ساعات، بعدما ضاعت كل آمالنا في مواصلة الإبحار نحو غزة بسبب الأعطاب المتكررة في سفننا. 

 

بعد أن تحققت ُمن ظهور رحلتي على شاشة المغادرة، انزويتُ في منأى عن الصخب، لعل النوم يجد طريقه إليّ أو آخذ قسطاً من الراحة لساعتين أو ثلاثٍ. كان ذلك بين دولابين بدا كأنهما مخصصان للمشروبات. 

 

ألقيت بكيس نومي(sac de couchage) على الأرض بعد تفكيكه واضعا أحذيتي والحقيبة الصغيرة التي تحتوي على أوراقي الثبوتية في أسفله، ثم التحفتهُ وشددت السحّاب متخذاً من قنينة الماء وسادة لرأسي المثقل بالتفكيرفي معاناة من عجزنا عن الوصول إليهم. أما تغطية  وجهي عن الأضواء فقد  تكفلت بها قبعتي التي طال ما رفعتها   للذين نجحوا في الاقتراب من شواطئ غزه و كوفيتي التي لم تفارقني ساعة واحدة منذ انطلاق هذه الرحلة.

 

بعد ساعتين، استيقظت في حالة من الذعر، معتقدًا أنني فاتني موعد رحلتي إلى باريس. لكن الساعة كانت تشير إلى السابعة صباحًا، ولوحة المغادرة لا تزال تُظهر أن رحلتي مبرمجة على التاسعة. جلست دون أن أخرج من كيس النوم، مستندًا بظهري إلى أحد الدواليب، وأخذت أُفتش بنظري حولي، إذ وقعت عينايَ على كيسٍ ورقي يحمل علامة المخبز "بول" (Paul) الذي أراه أمامي وتفوح منه رائحة الخبز الطازج. كانت آخر وجبة تناولتها عبارة عن بعض الحمص المعلب منذ أربع وعشرين ساعة.

 

سحبت نحوي الكيس لاكتشف، بلهفة، أنه يحوي وجبة فطور متكاملة الأركان تشمل لذائذ الفطائر الفرنسية(viennoiseries)، قنينة عصير، قطع جبن، وتفاحتين، الكل ملفوفٌ بطريقة أنيقة في منديل ورقي مختار. 

خرجت من كيس نومي، وافترشته جالسًا القرفصاء، ثم بدأت في تناول فطوري
بشهية بعد باسم الله لأبدأ في التأهب لرحلتي حيث حزمت متاعي جاعلاً حقيبتي على ظهري، و قبعتي على رأسي، ثم احتضنت كوفيتي مقبلا اياها بامتنان وربطتها حول عنقي متوجهًا نحو طابور الإقلاع.

 

 (2)

كنا في غمرة من الفرح مع اقتراب موعد انطلاق رحلتنا البحرية نحو غزة. انتهينا من التدريبات، وأصبح كسر الحصار تجربة مألوفة لا تحمل أيَّ سرٍ لنا بدءاً من حادثة مرمرة الدموية في عام 2010 وصولاً إلى سفينة حنظلة الأخيرة ، و مرورا بمحاولة مادلين التي شهدناها السنة الماضية. ناقشنا واعتمدنا مبادئ اللاعنف في مواجهة القوات البحرية الإسرائيلية، وتلقينا شروحًا وافية حول الجوانب القانونية والسيناريوهات المحتملة التي قد نواجهها عند تعرضنا للاعتراض وما يليه.

طلب منا منسقو حملة الصمود أن نتخذ إجراءات خروجنا من الفنادق في اليوم التالي، متجهين إلى ميناء سيدي بو سعيد بعد ذلك. كنت أنا وإسلمُ ولد المعلوم قد قمنا قبل يومين بالتوجه إلى مجمع تجاري خارج العاصمة تونس(Decathlon) ، حيث اقتنينا بعض المستلزمات الضرورية للسفر. أما سيدي محمد الحنفي فلم يستطع مرافقتنا بسبب التزاماته كعضو في المنسقية المغاربية، مما حال دون لحاقه بنا.

خرجنا الثلاثة إلى سوق باب الخضرة القريب من فندقنا لشراء بعض المكسرات والوجبات الخفيفة المجففة. في طريقنا إلى مقر الاتحاد العام التونسي للشغل (UGTT) حيث أجرينا معظم تدريباتنا، لم يتبقَ لنا إلا تسجيل فيديوهات النجدة التي قد تنشرها المنسقية عقب اعتراضنا وتعرُضنا للتوقيف على يد الجيش الإسرائيلي، كنا نتوقف أمام كل المحلات التي تعرض الأحذية والحقائب الظهرية، مع التركيز على المتخصص في بيع الأغراض المستعملة، إذ أن كل أمتعتنا ستصادر في النهاية. 
جذبت انتباهنا حقيبة بالشكل الذي نبحث عنه، متوسطة الحجم، تحتوي على جيوب عديدة وآليات ربط مميزة تُظهر عناية فائقة بتصميمها، بينما كان قماشها من النوع الممتاز.

بعد تبادل سريع للآراء، اتفقنا على أن هذه الحقيبة هي ضالتنا، ويجب أن لا تفلت من بين أيدينا وقد لاحظ صاحب المحل ومساعده اهتمامنا البالغ بها.

قال إسلمُ: "كم ثمن هذه الحقيبة؟" 
فرد صاحب المحل: "ستون دينار." 
أجاب إسلمُ بنبرة حاسمة: "سأعطيكم ثلاثين. هي حقيبة مستعملة." ثم توجه نحو باب المحل كإشارة إلى أن تلك كلمته النهائية. 

أجاب صاحب المحل: "لن أبيعها بأقل من خمسة وخمسين." 
عندها أضاف إسلمُ بمرح: "هل تعلم إلى أين نحن ذاهبون؟ سنبحر غدًا إلى غزة." 

في غمضة عين، تجمع حولنا حشد من الزبائن وعمال المحلات المجاورة، يستفسرون بشغف عن المبادرة وأبعادها. ثم، في لحظة مفاجئة، قام صاحب المحل بفك رباط الحقيبة، وأفرغ محتوياتها من القماش والمجلات التي كانت محشوة بها لغاية العرض. ثم تقدم بها نحو إسلمُ، مبتسمًا، وقال: "سدد لي دينارًا واحدًا، وخذ الحقيبة مع تحياتنا إلى أحبتنا في غزة!"

تصفح أيضا...