
امتدادا للمقال السابق عن تقرير محكمة الحسابات تأتي هذه القراءة لتضع النقاش في مساره الصحيح و تحدد بشكل واضح أنواع الملاحظات وحدودها و توضيح الفارق بين اخطاء التسيير والافعال المجرمة والاختلالات الهيكلية مع التنبيه الى مواطن قد تستدعي تعميق التحري متى ظهرت قرائن قصد أو منفعة غير مستحقة. الغاية رفع اللبس الذي تبع النشر وكبح موجات التهويل والتبسيط وصرف النظر عن الأشخاص الى الوقائع والأرقام والنصوص. وقد خضت في التفاصيل بالقدر الذي سمح به الوقت مع تحر للدقة والتؤدة قبل كل تعليق على ان يظل الباب مفتوحا لمراجعات أكثر ضبطا كلما أتيحت الفرصة.
عند جمع الملاحظات التي شملتها هذه القراءة التفصيلية يظهر رجوح واضح و تواجد كثيف لأخطاء التسيير على حساب المخالفات الأخرى حيث بلغت نحو 190 ملاحظة أي ما يساوي 60% من مجموع الملاحظات. لقد تحدث التقرير بشكل واسع عن قرارات أضرت بالمرفق العام أو عرضته لمخاطر مالية ومادية وتشغيلية من غير دلائل كافية على قصد منفعة غير مستحقة مثل التأخر في إنجاز مشاريع الطرق دون تفعيل غرامات التأخر و استلام تجهيزات صحية دون إجراء اختبارات التشغيل و دون تكوين العاملين عليها و التوسع الغير مبرر في مساطر استثنائية كـالتسديد الفوري و اختلال مساطر التفاوض على العقود النفطية أو عدم تفعيل الضمان العشري على المنشآت الفنية أو غياب جرد سنوي شامل ومطابقة للقيم الدفترية. هذه ليست بالضرورة جرائم لكنها تهدر المال العام وتضعف الخدمة العمومية.
تم كذلك الحديث و إن بحضور أقل عن جزء مهم من الاختلالات البنيوية والتنظيمية التي تكشف هشاشة النظم و ضعف الكفاءة في الإدارة بلغت نسبتها 23% ومنها على سبيل المثال غياب الصيانة الوقائية المنتظمة للمنشآت و نقص في سلاسل التبريد على مستوى المستشفيات و غياب منظومة موحدة لتتبع كميات الأدوية ومصارفها و هشاشة وسائل الاتصال والتغطية للوحدات الميدانية و الأعطال المتكررة بمحطات الأكسجين لظروف بيئية و اخراج مواد دون اوامر صادرة من النظام المعلوماتي و ضعف مساطر اثبات الإنفاق وحفظ الوثائق و غيرها.
أما شبهات الفساد والأفعال المجرمة أو تلك التي قد تفضي التحريات المعمقة إلى ذلك فهي اقل تواجدا في التقرير لكنها في المقابل أعمق أثرا و أبلغ وقعا لأنها تمس صميم الثقة العامة وتفتح باب المساءلة القضائية و قد بلغت 54 حالة أي ما يعادل 17% و هي نسبة مرتفعة بالفعل و منها على سبيل المثال :
• مبالغ مدفوعة عن اعمال تنظيف وتسوية وترحيل لم تنفذ وصلت اجمالا الى 21,582 مليون اوقية جديدة و 817 ألف يورو.
• نقص ظاهر في سماكة طبقة الاسفلت مقارنة بالمواصفات (متوسط 3 سم بدل 5 سم) بما يعني ان نحو 40%من الكمية المدفوعة لم تستعمل بقيمة تقارب 19,728 مليون اوقية جديدة و2,1 مليون يورو.
• ملحق لمحطتي اكسجين بقيمة 67,976 ألف أوقية جديدة بعد الاستلام الاصلي بما يرجح منح منفعة غير مستحقة للمورد.
• استلام غير مطابق لمحطات اكسجين (غياب اختبار وتشغيل وتكوين ووثائق)، مع وضع محطة في مستشفى مغلق واستمرار شراء القوارير بكلفة مرتفعة.
• تجزئة النفقات ومنح طلبيات تدريب متقاربة في نفس التاريخ ولموردين بعينهم بما يعطل المنافسة ويخالف قانون الصفقات.
• وجود تواطؤ مع بعض زبائن الجهد المتوسط الذيب يعمدون الى الغاء اشتراكاتهم ثم اعادة الاشتراك بصفة زبائن الجهد المنخفض للالتفاف على الديون، مع اثر مالي .
• اشتراكات احتيالية لزبائن الجهد المنخفض يعاد قيدهم باشتراكات جديدة عبر عناوين مضللة للتهرب من السداد.
• واقعة اختلاس محلية على مستوى صندوق مركز المجرية تم اكتشافها ثم تسويتها.
الفصل بين هذه التصانيف الثلاث ليس مجرد تناول لغوي بل توضيح مفاهيمي ضروري لفهم مدى الاختلالات و شرط ضروري لضمان العدالة و القيام بالإصلاح. أخطاء التسيير هي انحرافات اجرائية وادارية مخالفة للمصلحة العامة ينتج عنها ضرر لكنها لا تتضمن بذاتها عنصر المنفعة غير المستحقة لشخص او جهة معينة و هو ما يجعل تصحيحه من صميم الإجراءات و العقوبات الإدارية واسترجاع المبالغ غير المستحقة وتقوية نظام الرقابة الداخلية. أما المخالفات المجرمة فتنشأ حين يظهر عنصر القصد والمنفعة أو استغلال الوظيفة أو التلاعب بالإجراءات و وثائق الإثبات وهنا لا يكفي التصحيح الاداري بل يتطلب الأمر تحريك المسار القضائي أو التأديبي بحسب نوع الفعل. وبين هذين الصنفين من التجاوزات نجد الاختلالات البنيوية و هي انعكاس لهشاشة المنظومة الإجرائية أو ضعف الموارد المادية و البشرية و تقادم نظم المعلومات وتداخل في الصلاحيات و ارتباك في التنظيم وهي لا تدين شخصا بعينه بقدر ما تعني جميع القائمين على الهيئات العمومية لأنها تهيئ الأرضية المناسبة لوقوع هذه التجاوزات و تسمح بتكرار الأخطاء و تجعل هذه المخالفات تفلت من الرقابة.
و في إطار الفصل بين المفهومين تكمن صعوبة أخرى حيث أن بعض التجاوزات التي لا ترقى في ذاتها إلى مرحلة الجرم قد تكون قرينة على فساد مجرم متى تكررت و اختلفت أنواعها أو ارتبطت بمنفعة بينة لطرف بعينه أو صاحبتها محاولات لطمس الأثر أو تغطية الخلل أو قد تخفي خلفها عملا مجرما لكن اثباته وتكييفه القانوني يكتسي صعوبة بالغة. إثبات القصد وربط المنفعة بقرار بعينه وسبر الأغوار في سلسلة الوقائع كلها إجراءات تحتاج أدوات تحقيق مالية متقدمة وخبرة راسخة و تجرد كاف و اهتمام و حافز قوي لذلك قد يتطلب الأمر تحريك القضاء في بعض الملفات ليتولى ما يتجاوز حدود طاقة الرقابة الادارية.
ينبغي أيضا التنبيه الى ان هامش الخطأ لدى هيئات الرقابة يظل كبيرا في محيط يفتقر الى صرامة القواعد وتكامل الإجراءات. ضعف نوعية الوثائق و التساهل في تنفيذ الاجراء والتفاوت في فهم النصوص قد تقود احيانا الى تقديرات تميل الى التشدد او إلى التساهل لكن هذا الهامش يصب دائما في مصلحة المسير حيث يجد المدقق نفسه مرغما على تجاوز فعل لم بجد من الأدلة ما يكفي لتكييفه على أنه جرم بحكم القانون.
و عليه فإنه من الانصاف و الحصافة أن نقرأ ملاحظات المحكمة على هذا الأساس فلا يعامل تقرير رقابي كما لو كان حكما نهائيا ولا يهمل بدعوى أن البيئة غير مهيأة.
لا يشك أحد في اتساع الفساد وكلفته الثقيلة على الاقتصاد فهذا هو الانطباع الغالب وله شواهد كثيرة و مبررات عديدة. لكن نقل الانطباع الى أدلة قاطعة يعتبر بذات خطورة التساهل و التخاذل لأنه قد يعرض بريئا إلى الظلم. الطريق العملي يمر عبر مسارين متوازيين مسار تصحيح اداري ومالي صارم يعيد الأموال و يسد الثغرات وينظف الحسابات ومسار قضائي يعززه تحقيق مهني يتوخى الدقة في التكييف والإثبات.