مفتش عام مساعد للدولة سابقا يعلق على تقرير محكمة الحسابات

جمعة, 10/10/2025 - 23:59

بعد الاطلاع على التقرير الأخير الذي أصدرته محكمة الحسابات بدا لي أن حجم المادة التي يتضمنها وتنوع ملاحظاته يفرضان تناولا على مرحلتين. فالأولى ستكون مخصصة لعرض الملاحظات العامة حول شكل التقرير ومنهجيته واتجاهه العام وهي محاولة لتقديم طبيعة التقرير الرقابي وحدود فعاليته. أما المرحلة الثانية فستتناول تفاصيل التقارير القطاعية وما تضمنته من وقائع محددة وتجاوزات موثقة. ويأتي هذا المنشور ليقدم قراءة أولى أقرب إلى التشخيص المنهجي تسعى إلى تقييم الأسلوب والنسق ومدى حضور روح الرقابة في هذا التقرير الهام.

يعتبر نشر التقارير السنوية تطورا مهما في مسار الشفافية والمساءلة. فإتاحة هذه الوثائق للعموم تشرك الرأي العام والمجتمع المدني والإعلام في رقابة الشأن العام. لقد تحول نشر تقرير محكمة الحسابات إلى تقليد يجب أن يشمل كذلك تقارير المفتشية العامة للدولة وباقي الأجهزة الرقابية. فهو من جهة أداة ردع للمديرين والمسؤولين الذين يدركون أن سوء التسيير لن يظل طي الكتمان ومن جهة أخرى حافز للهيئات الرقابية نفسها لتحسين جودة تقاريرها ومهنيتها لأنها أصبحت في مرمى التقييم العام. إلا أن هذه الخطوة على أهميتها تتطلب من المؤثرين والمجتمع المدني تعاطيا ومسؤولا مع مضمونها فالتقارير ليست مادة للتشهير ولا مناسبة لتصفية الحسابات بل مصدرا للمعلومة ينبغي التعامل معه بعمق لا بسطحية وبموضوعية لا بتحامل كي يتم تمييعها.

قبل أبدأ في الخوض في الملاحظات الجوهرية أرى أنه من الضروري أن تعمل المحكمة على تحسين الشكل العام لتقاريرها وإخراجها بصيغة أكثر جاذبية وتنظيماً لأن التقرير مهما كانت قيمته الفنية يحتاج إلى تصميم يشجع على تصفحه ويبرز خلاصاته برسوم وجداول ومؤشرات تجعل المعلومة سهلة الفهم وسريعة الوصول للقارئ. 
من الملاحظ أن التقرير تضمن عددا محدودا من المهام الرقابية لا يتناسب مع حجم الإمكانيات المتاحة للمحكمة وعدد القضاة والمدققين الذين تم اكتتابهم خلال السنوات الأخيرة و جودتهم. فعدد المهام المنجزة بمعدل ستة مهام للسنة يظل متواضعا مقارنة بالإمكانات المتوفرة ما يوحي إما بوجود قوة عطالة قوية تحد من دينامية أداء الهيئة أو بضعف الحافز المهني لدى أعضائها ما يدفعهم إلى المكوث في التدقيق و تخصيص وقت طويل لمهام كان يمكن القيام بها في وقت أقل بكثير.
لقد غاب أي تقديم داخل التقرير يوضح حجم الموارد البشرية والمادية المتاحة للمحكمة وهو عنصر أساسي كان سيمكننا من الوقوف على فعاليتها ولقياس مردوديتها و تقييم أدائها. كان سيكون كذلك بادرة حسنة ترسل من خلالها المحكمة رسالة مهمة مفادها أنها تقدم وضعيتها المالية و الإدارية بشفافية.
لقد حرصت المحكمة على إدراج مراقبة الأداء ضمن برنامجها وهي خطوة مهمة قد تمكن من تقييم السياسات العمومية و عدم و تجاوز رقابة النفقات والإيرادات و هو هدف كان مطروحا منذ سنوات للمحكمة و للمفتشية العامة للدولة. إلا أن الانطباع الذي خرجت به من هذا التقرير هو أن هذا الحضور كان شكليا أكثر من كونه تحليليا وكأن الغاية كانت إدخاله دون تهيئة البيئة المهنية والمنهجية اللازمة لتطبيقه. وقد يكون ذلك نتيجة حداثة التجربة أو غياب أدوات القياس و عدم جاهزية المحيط الإداري لها مما جعل هذا المجال الرقابي لا يحقق بعد القيمة المضافة المرجوة منه في تقييم أثر المال العام على التنمية وجودة الخدمات.
لقد لاحظت في كثير المرات وجود عبارات عامة فضفاضة من قبيل "عدد هام من ....." دون تحديد أرقام أو تفصيل دقيق للموضوع و غياب الجداول التجميعية للملاحظات وهذا الأسلوب وإن كان مقبولا في نوعية معينة من التقارير التحليلية إلا أنه يفقد تقرير المحكمة دقته وشفافيته ويترك الانطباع بأن فرق التدقيق لم تستكمل تحرياتها أو آثرت عدم كشف كامل النتائج. الرقابة الفعالة لا ينبغي أن تكتفي بالتوصيف العام بل عليها أم تكون أدق ما يمكن. 

من ناحية أخرى نلاحظ أن التقرير غابت عنه الرقابة على قطاعات إستراتيجية أخرى كالتعليم و الزراعة و المياه و غيرها. ما قد يعكس غياب خطة رقابية متوازنة تغطي بانتظام كل القطاعات الحساسة.

يسجل على التقرير كذلك غياب أي فصل خاص بـمتابعة تنفيذ التوصيات السابقة أو عرض يبين مدى تجاوب الإدارات المعنية.

تميل صياغة التقرير إلى الطابع الإرشادي أكثر من العقابي إذ تعرض الملاحظات في شكل توصيات إصلاحية دون تحديد للمسؤوليات الفردية مما يقلل من حدة المساءلة ويضعف الأثر الردعي للرقابة. تشعر في بعض مراحله أنه أقرب إلى تشخيص إداري أو تقرير تحليلي منه إلى تقرير رقابي تحس بذلك خصوصا في جزء التقرير المتعلق بوزارة البترول والمعادن والطاقة.

يظهر التقرير أن أغلب الملاحظات تندرج ضمن ثلاث فئات اختلالات مالية في استخدام الموارد وأخطاء تسيير بسبب ضعف الرقابة ونقائص تنظيمية تمس المتابعة والمساءلة. ويبدو أن حوالي 40%  منها ذات طابع مالي صريح تشمل عمليات صرف غير مبررة أو مخالفات في التحصيل غير أن التقرير لا يوضح الإجراءات المتخذة تجاهها. 

لاحظت كذلك غيابا شبه تام لتحديد المسؤوليات الفردية عن التجاوزات الموثقة إذ تعرض المخالفات بصيغة جماعية أو مؤسسية دون ذكر الجهات أو الأشخاص المعنيين بها مباشرة. هذا الأسلوب وإن كان يضفي طابعا حذرا على التقرير إلا أنه يفرغه من بعده الرقابي و يجعل الخطأ بلا صاحب مما يقلل من فاعلية الرقابة ويضعف أثرها الردعي و يفتح المجال أمام التخمينات ما قد يجر الرأي العام لظلم من ليست له مسؤولية مباشرة عن التجاوزات الملاحظة وغض الطرف عن من كان خلف هذه التجاوزات.

يتبع .........

تصفح أيضا...