![](https://mourassiloun.com/sites/default/files/styles/large/public/field/image/FB_IMG_1739208500121.jpg?itok=-VW3uPLE)
عن مقطع الدكتور الكنتي في صالون الولي. /عبد الرحمن النحوي
لم يزل الزمان يأتينا بجديد، ولم تزل نوائب الدهر تضرب عقولنا بيدٍ من حديد، حتى طلعَ بين الجدار والأكمَة من ينكر علمَ الصوفية، ويحط من مرتبتهم العلية، ويصفهم بالباطنية، وهم الذين بنوا قواعدهم على أساس متين قائم على: الخروج من كل خلقٍ دني، والدخول في كل خُلقٍ سنِي، حتى صفوا وتصافوا واتصفوا بما وصفهم به الأخضري في الجوهر:
كحبذا الطَّريقة الصوفيه
تهدي إلى المرتبَة العلِيه!
طلع الزمان بطالع سعدهم، وورد العارفون بحارَ وردهم، وسلم لهم العلماء والعامَّة، وهم أصول الدراية والرواية، ومنبع التزكية والولاية، وأئمة الشؤون وحفظة المتون، وأرباب عوارف المعارف اللدنية والحقائق السُّنية السنية والأخلاق المحمدية الزكية.
فهم النجوم المهتَدى
بهم إلى سبُلِ الفوائِدْ..
سمعتُ كلامَ الشيخ الدكتور بِالكنتِي عن التصوف، فَوجدتهُ غفلاً من ثلاثِ خصال:
الإنصاف، والعلم، و"اتكَنتِي"، ثم لم أجد بداً أن أستحضرَ فيه قولَ السابق:
مقال عن الإنصافِ والرأي بائن
كمَا أنَّه قطعاً بريءٌ من "اتكَنتِي".
وإن من طالع الأيام النحساتِ والليائل الداهيات أن تسمع من فروع الشيخِ سيد المختار الكنتِي: من يطعن في التصوف السُّني السَنِي:
ومن عادَة الأيام قلبُ الحقَائِق.
1- قالَ الكنتي: إنَّ أهل التصوف ليسوا أهل درايةٍ ولا رواية، وأنا أتحداه وأتحدى غيره من بني نحلتهِ أن يأتونِي بسند واحد من يومنا هذا إلى النَّبي صلى اللـه عليه وسلمَ ليس فيه صوفي أشعري؟ ولن يأتوا به!
وعجبي كيفَ يقول هذا وعن يمينه ولي اللـه: العلامَة محمذن ولد محموداً وهو أهل الدارية والرواية والولايَة - نحسبه كذلكَ ولا نزكي على اللـه أحدا - فإن رضي بإنكار المتواتر فكيف يرضى بِِإنكار المشاهدِ؟
إن قول القائل إن أهل التصوف ليسوا أهل روايةٍ ولا درايةٍ سفسفطةٌ لا تستحق ردًا، ولكننَا نرد عليها لئلا تنطلي على بعض ضعَفة العقول:
الصوفية حملة مشعل لواءِ الأمة في العلوم الظاهرة والباطنَة روايةً ودرايةً: فقد كانَ بشر الحافي إمامَ الناسِ وسيدَ الزُّهاد، وكذلك كانَ معروف الكرخي، والحسن البصري، والفضيل بن عياض، ورابعَة العدوية، وإبراهيم بن أدهم، والجنيد والتستري والبلخي والشيخ عبد القادر الجيلاني والإمام الغزالي والنووي والعز بن عبد السلام وابن دقيق العيد والإمام القشيري والشاذلي وابن مشيش وابن عطاء اللـه وأبو العباس المرسي والتقي السبكي وزروق وابن الجزري وابن حجر الهيتمي والإمام السيوطي والبدر الغزي وشيخ الإسلام زكريا الأنصاري، والإمام الدرديري والدسوقي ومئات لا أحصيهم من العلماء الأولياء المحققين من أهل اللـه.
أما في هذا القطر الشنقيطي: فالشيخ سيدي المختار الكنتي وابنه الشيخ سيدي محمد والشيخ سيديا الكمَال القادريون والمجيدري الخضري والشيخ محمد الحافظ العلوي التجاني والشيخ المجتهد محنض باب بن عبيد الديماني التجاني والشيخ بدي بن سيدينَ التجاني والعلامة محمد فال بن باب التجاني والإمام المجتهد سيدي عبد اللـه بن الحاج إبراهيم الشاذلي ومحمذن فال بن متالي الشاذلي، ويحظيه بن عبد الودود الشاذلي، وجمع غزير غفير من العلماء الكمل.
بل لن تجد من أهل هذه البلاد الطيبة عالماً قبل المد "النَّفطي" ليسَ متصوفاً أشعريا إلا ما ندر.
وكيفَ يصح في الأذهان شيءٌ
متى احتاجَ النهار إلى دليل؟
2- سخر الدكتور سخريةً منعكسةً بعكس النقيض من قول مالكٍ رضي اللـه عنه في ما تواترَ عند أهل مذهبه: (مَنْ تفقَّهَ ولم يتصوف فقد تفسق، ومَنْ تصوَّف ولم يتفقه فقد تزندق، ومن جمعَ بينهما فقد تحقَّق) وقد يقول القائل في جواب ذلكَ: {إن تسخروا منَّا فإنَّا نسخرُ منكمْ كمَا تسخرونَ}.
فالتصوف مصطلح - ولا مشاحة في الاصطلاح - أطلقه العارفون على مقام الإحسان، فلا فقه إلا بصدق وإخلاص، ولا صدق إلا بفقه، والتحقق بهما تمام ماهية الكمَال الرباني الذي يجمع صفاء القلب وحسن العمل، ويحقق كمال الطهارة القلبية والعملية.
3- لا يشك عاقل أن في التصوف أدعياء، وقد قال في العوارف إن الصوفية ثلاثة أقسام: متمكن ومتلون ومتشبه، والرابع المتشبه بالمتشبه، يدعي أحوالهم وهو أبعد النَّاس عن منوالهم.
وأكثر من حارب أهل الدعاوي: الصوفية أنفسهم، فقد كان الشيخ التجاني يقول إن من علامات سوء الخاتمة الدعاوي، ونظم ذلك بعض تلامذته بقوله؛
ومن يدعي كشفاً وسراً ولايةً
ومشْيَخةً يمت على سوء خَتمة
وقالَ صاحب المنية:
وكان ينهى الناس عن دعواها
مخافةَ السقوط في بلواهَا
4- دعا الدكتور مرةً واحدةً إلى حوار منطقي -في قوله: برهنوا أن التصوف هو الإحسان- ونحن قوم نحب النقاشَ المنطقي، ولكنَّ الدكتور الذي دعا للبرهنة خالف البرهنة ونفى الإحسان عن المنطق رأساً، واعتبر أن ما فعله الصوفية من إطلاقهم التصوف على الإحسان مصادرة للمطلوب، وجزم أن لا علاقة للتصوف بالإحسان إطلاقاً، ثم يدعو للبرهنَة بعد ذلك!
وقد فات الدكتور: ولعله لم يقرأ هذا في اللسانيات، أنه في إشكال بهيم لا يقع فيه صغار طلاب المنطق في الجامعات، وهو إشكال اللقب والمفهوم، فمتى صارت المسميات عائقاً ومتى صارَ في الاصطلاح مشاحة، سموه تصوفاً أو تزكيةً أو إحساناً أو فلسفةً أو سفسطة، فالأسماء اصطلاحية وقفية توضع لمعانٍ معينة، وقد قالَ مولود:
الوضع إن تكن بذاك تعنى
أن يجعل اللفظ دليل المعنى
إنما تقابل المعاني والمفاهيم لا الألفاظ والمصطلحات.
فما حال الدكتور إلا حال رجلين رأيا أسداً ليلةً: فقال الأول هذا هزبر، وقال الثاني هذا أسد، وظلا يختصمان حتى أكلهما الأسد وانصرف، ولو أنهما أدركا معناه وفهما افتراسه، لربما نجيا، ولكن الانشغال بالمصطلحات سفسطة لا يقع فيها العقلاء.
ولنقل في إثبات أن التصوف عين مقام الإحسان:
مقام الإحسان كما عرفه الصادق المصدوق صلى اللـه عليه وسلم: أن تعبد اللـه كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وقد أجمع الشراح على تعقيب العبارة بقولهم: وهاتان الحالتان تُثمرهما معرفة الله وخشيته، وقد عبَّر صلى الله عليه وسلَّم في رِواية عمارة بن القعقاع بقوله: أن تخشى اللـه كأنكَ تراه.
والتصوف كما عرفه جماعة من أهله وأربابه: الدخول في كل حلق سني، والخروج من كل خلق دني، وعرفه بعضهم: بالصفاء والمشاهدة، وزادت تعريفاته على الألف، والجامع بينها جميعاً: التحقق بالخشية من اللـه ومراقبته والزهد في ما سواه، ولذلك أثر الصوفية عن المسيح عليه السلام قوله: لباسي الصوف، وشعاري الخوف.
أفليست المراقبة والمشاهدة عين: أن تعبد اللـه كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك!
5- التصوف: ليس غنوصية باطنية، بل التصوف: التمسك بالفقر والافتقار والتحقق بالبذل والإيثار وترك التعرض والاختيار، وأن يميتك الحق عن الخلق، ويحييكَ به.
والصوفية كمَا عرفهم الطوسي: العلمَاء باللـه وبأحكام اللـه العاملون بما علمهم اللـه والمتحققون لما علمهم اللـه واستعملهم اللـه.
وما التصوف - في جميع الطرق الصوفية - إلا أوراد تشتمل على ما يلي:
الاستغفار، وقد قالَ اللَّـه عز وجل: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا* وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا}.
- والصلاة على النبي صلى اللَّـه عليه وسلم وقد قالَ اللَّـه عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}.
- وذكر اللَّـه عز وجل: وهو القائل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلَا}.
فكيفَ يكون أمر اللَّـه بدعَة وباطنيةً وكيفَ تكون البدعَة شرعَة، وهل لذلكَ من البدعَة جفنَة أو قصعة!
إذا كانَ ذكر اللَّـه واللَّـه بدعَة
فيا حبذَا طوبَى وأهلاً بذي البِدعْ
ختاماً: ليعلم الدكتور أن كلمته لن تطفئ بريق التصوف، ولا كلمة غيره، فكلمة اللـه باقيةٌ خالدة تالدة، وليسمع قول اللـه عز وجل
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً • يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيما}.