د. "إبراهيم الكلي" يرد على مداخلة "الكنتي" حول التصوف

اثنين, 10/02/2025 - 10:16

لقد ساقني تنويه بعض الأحبّة وشيءٌ من الفضول إلى متابعة مداخلة د. محمد إسحاق المتلقِّب بـ"ـالكنتيّ" في الحلقة الأخيرة من صالون الولي ولد محمودا حول التصوُّف، فعجِبت لمن أعجبتْه، أو صادفت في نفسه شيئا، على أنّ هذا المسكين لا يبرِّئ نفسه من الميل للعارفين من الصوفية، وإن كان خِلوا من الأوراد والتلمذة؛ وفي خِضم حملة الكورال المنوِّهة بالمداخلة أوردُ التنبيهات الآتية:

1 – التصوُّف مدرسة تربوية تمثِّل نموذجا فريدا من اجتهاد أئمة الدّين في تمثُّل مقام الإحسان، ومعالجة النفوس وأدوائها، والقلوب وأمراضها، ورسولنا صلى الله عليه وسلّم فسّر الإحسان بـ"أن تعبد الله كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك" وكلّ معاني صدق التوجّه إلى الله راجعة لهذا المعنى، وأمّا إحداث التسمية بالتصوف أو الصوفية فلا يُشكل على من لديه عقل، فجميع علوم الشريعة أصولِها وفروعها ببنائها الذي استقرّت عليه مُحدثَة الأسماء والألقاب، فالعبرة بالحقائق والمعاني لا بالأسماء والمباني، فالتصوف دائر إلى مقام الإحسان كما دار الفقه على مقام الإسلام، والعقائد وأصول الدين على مقام الإيمان.. فلا وجه ولا معنى لإنكار التسمية.
ليس التصوُّف باطنية ولا غنوصيَّة؛ بل هو علم طريق الآخرة وما درج عليه السلف الصالح مما سماه الله سبحانه في كتابه فقها وحكمة وعلما وضياء ونورا وهداية ورشدا.. هكذا فهِمه الإمام الغزالي وأمثاله، ذكر الإمام زرُّوق في مقدّمته أن التصوف حُدّ ورُسِم بوجوه تبلُغُ الألفين مرجِعُها كلُّه لصدق التوجُّه إلى الله تعالى [انظر قواعد التصوّف: 21].
وقد عُرِف بالتصوف وارتبط به أُلوف من أعلام الأمّة المشهود لهم بالأمانة والعدالة والإمامة في الدين، فانظُر سير أعلام النُّبَلاء وحلية الأولياء وطبقات الأصفياء وغيرها، من السري السّقَطيّ والجُنيد (شيخ الصوفية كما يُسمّيه الذهبي وغيره) وسهل بن عبد الله التّستري والداراني وابن أدهم.. إلى الشيخ سيدي المختار وابنه الخليفة الكُنتيَّين والشيخ سيديا والمرابط محمّذن فال ولد متّالي.. مرورا بالجيلاني وأبي الحسن الشاذلي وزرُّوق.. وغيرهم من أئمّة الهداية والرواية الدِّراية.
2 – القول إنّ "الصوفية ليسوا أهل رواية ولا أهلَ دراية" تعميم باطلٌ وبُهتان مبينٌ، وجُرأة معهودة من المتحدِّث على أرباب الخير والنُّهَى وأهل العلم والفضلِ، فهذا إمام القوم الأول الجُنَيد يقول: "علمنا مضبوط بالكتاب والسنة من لم يحفظ الكتاب، ويكتب الحديث، ولم يتفقه لا يقتدى به، قال عبد الواحد بن علوان: سمع الجنيد يقول: علمنا -يعني التصوف- مشبك بحديث رسول الله" [سِيَر أعلام النبلاء: 14/ 67] وأبو سليمان الداراني يقول: "ما قبِلتُ واردا إلّا بشاهدين من الكتاب والسنة"، وقال الشاذليُّ: "ضُمنت لنا العِصمة في الشريعة".. ولو جُمعت أقوالُهم بهذا المعنى لكانت مجلّدات.
إنّ التصوُّف الحقّ هو العلمُ رواية ودراية وهو الإحسان وثمرة العِرفان، ولا سبيلَ إلى طريقه إلّا بالعلم؛ فـ"سلوك طريق الآخرة مع كثرة الغوائل من غير دليل ولا رفيق متعب ومكِدّ، وأدِلَّةُ الطريق هم العلماء الذين هم ورثة الأنبياء" [إحياء علوم الدّين: 1/ 2].
3 – أمّا سُخرية المتحدِّث من مقولة: "من تصوّف ولم يتفقّه فقد تزندق، ومن تفقّه ولم يتصوَّف فقد تفسَّق، ومن جمع بينهما فقد تحقّق" فهي دليل على القصور البيّن في العلم والفهم، فالقائل هو الإمام مالك إمام الفقهاء وأهل الرواية والأثر، وذلك أنه لا تصوُّف إلّا بفقه، إذ الفقه هو السبيل لمعرفة أحكام الله، ولا فقه إلّا بتصوُّف؛ لأنّ العملَ لا يُقبَل إلا بصدقٍ وتوجُّهٍ، ولا يصحُّ واحدٌ منهما إلّا بالإيمان، فتلازم الفقه والتصوُّف تلازُم الأرواح والأجساد، ويوضِح الشيخ زروق أن "الأول تزندق؛ لأنه قال بالجبر الموجب لنفي الحِكمة والأحكام، وتفسّق الثاني لخلوِّ عملِه عن صدق التوجُّه الحاجز عن معصية الله.. وتحقق الثالث لقيامه بالحقيقة في عين التمسُّك بالحقّ، فاعرف ذلك" [قواعد التصوف: 23].
4 – نعم، لا يُكابر منصف أنّ في الأمّة أدعياء من المتصوِّفة منحرفين عن الجادّة، والحقّ والدين والتصوُّف منهم براءٌ، ولا يُترَك الحقُّ لدعاوى المبطلين، وليس هذا خاصا بالصوفية بل إنّ في الفقهاء مطعونين وفي الأصوليّن أهل هوى مذموم، وفي القراء... فلم تسلم منهم طائفة من المسلمين.
5 – أمّا حديثه عن "إلقاء الكلام على عواهنه" فعجبٌ، وكلمته كلُّها من ذاك الباب، وأمّا قوله عن "الأبوّة الروحية" فلم يُبِن فيه كـ"ـجفاف النصّ"، ولم يَفهم المراد عند من يقول به، وليس من أصول التصوّف ولا فروعه، ومع ذلك فالصواب ما قاله بعضُ علمائنا:
وكون حق الشيخ من حق الأبِ ** ألزمَ لم أجده في قول النبي
ولم يكن يظهر لي في الحُكُم ** ولم أجده في الكتاب المحكم
وكون ذا أصل الحياة الباقيةْ ** والأب أصلٌ في الحياة الفانية
ليس به الدليلُ إذ للوالدينْ ** أصلٌ لذين في ارتضاع المحتِدَينْ
وكونه عقوقه لا يغفرُ  ** فخرْقُ الِاجماع، ومنه استغفِرُوا

6 – ختاما، يقول الإمام زروق في القاعدة 11 إنّ "أهلية التصوُّف لذي توجُّه صادق أو عارف محقِّق، أو محبٍّ مصدِّق أو طالب منصفٍ، أو عالم تُفيدُه الحقائق، أو فقيه تفيده الاتِّساعاتُ، لا متحاملٌ بالجهل أو مستظهِرٌ بالدّعوى أو مخالف في النّظَر أو عامِّيٌّ غبيٌّ".
والسلام.

تصفح أيضا...