قلتُ في منشور سابق بأنّ الرئيس قد لا يترشّح لمأمورية ثالثة بحسب ما يتراءى أمامي من معطيات. قلت هذا الكلام منذ بداية 2015 ، ولقيتُ بسببه ما لقيتُ من غمز وهمز ولمز سامح الله أصحابه. وقلتُ إنّ عدم ترشحه، إذا ما تأكّد، سيكون خطوَة كبيرة تفتح باب التناوب على السلطة في حَدّه الأدنى داخل فريقه السياسي؛ وفي الحد الأقصى بينه وبين المعارضة. وفي كلتا الحالتين، قلتُ بأنّ تخلّيه عن كرسي الرئاسة في حدّ ذاته يعَدُّ قَفزة كبيرة في سجلّ تاريخ هذه "الباديّة" التي تعذّر فيها بناء الدّولة والاحتكام إلى دستور حتى الآن.. هذا تقريبا هو لبّ ما كتبته في تدوينة سابقة؛ واليوم أعود إلى نفس الموضوع، وقد هالني مقال الأخ #البشير_عبد_الرزاق وفتَح شهيّتي للنّقاش. أعودُ لأقول بأنّ انتقال السلطة من فريق الموالاة إلى فريق المعارضة لا يحدُث بصورة أتوماتيكيّة أو آليّة وتلقائية؛ ولا يُحَدِّد له الدستور ولا الديمقراطيّة مدّة معيّنة لكي يحدُث. ليس هناك أية قوانين ولا أعراف ولا عادات تحتِّم وصول المعارضة إلى السلطة للدِّلالة على سلامة العمليّة السياسيّة؛ فالموضوع موضوع معركة وصراع وميزان قوة بقدر ما هو موضوع عدالة ونزاهة وشفافيّة وحسن أداء؛ ولا يَتَحَقّق، أعني التناوب بين السلطة والمعارضة، إلاّ بشروط محدٌدة.. منها ما يتعلق بالسلطة، ومنها ما يتعلق بالمعارضة نفسها، ومنها ما يتعلق بالسلطة والمعارضة معاً. وسوف نتطرّق للشروط المطلوبة بشيء من التفصيل، بحَول الله.
لقد احتاجت الدول الأوروبية، باستثناء بريطانيا، إلى ما يُقارب ال100 عام حتى تعرف التناوب. فالدانمرك عرفته في ال50 من القرن الماضي، وألمانيا الغربية في 69، والسويد في 76، وإسبانيا والبرتغال في 80 فقط. وفي فرنسا، استمرّ الديغوليّون (ديگول، ثم بوبمدو، ثم جسكار) في الحكم من سنة 1958 إلى سنة 1981 بلا انقطاع، ممّا يؤكد حقيقة أنّ الممارسة الديمقراطية لا تقتضي بالضرورة حدوث تناوب على السلطة بين فريقين في أجَل محدّد. ولعل من أسباب استمرار الديغوليّين لمدّة 23 سنة هو انقسام المعارضة في هذه الحقبة على أسس إيديولوجية بين الحزب الاشتراكي والحزب الشيوعي وغيرهما من القوى السياسية والنقابية والمدنية المختلفة. فتحقيق التداول كان يفترض وضع حد لتشرذم المعارضة وتفكك قواها وتراجع دورها من أجل أنْ تصِل إلى السلطة. وهو ما حدث فعلاً عام 1981 في إطار ما عُرف ب"البرنامج المشتَرَك". ثم إنّ التناوب غاب عنها، أيْ فرنسا لمدّة 15 عاما (81-96 ). وغاب عن إسبانيا 14 عاما (82-96 )، وعن بريطانيا لمدّة 18 عاما (1979-1997). وفي السنغال، استمرّ الرئيس سانغور وخَلَفُه عبدو ادْيوف 24 سنة في ظل التعدديّة الحزبِيّة (1976) قبل أن يصل الرئيس عبد الله واد عام 2000 بعد أن استطاع حشد المعارضة بجميع مكوّناتها وراءه، ثُم غاب التناوب بعد ذلك لمدّة 14 عاما.
وفي سياق هذا المسار الدولي البطيء نحو التناوب، وطالما علمنا أنّ 24 سنة انقضت في السنغال دون تناوب بين فريق وفريق، فلا عجَب أن تمضي 26 سنة على التجربة الموريتانية دون تناوب ديمقراطي؛ 26 سنة تخلّلتها انقلابات عسكرية تعيدها في كلّ مرّة إلى نقطة الصفر! شخصيا لا أرى في مسارنا رغم ما اكتَنَفه من حَيف وظلم وضياع للجُهد والوقت؛ لا أرى فيه ما يدعو إلى اليأس والإحباط وجلد الذّات على نحو ما نشاهده الآن في الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي. ولا أرى فيه ما يبرّر كيل الشتائم والسباب للطبقة السياسية عموما والمعارضة خصوصا، ونعتها "بالفاشِلة" و"العاجِزة"، و"المتَجاوَزَة"، إلخ.. نحن بلدٌ عربي إفريقي بدوي متَخَلف، ومجتمعٌ "قَرْن أوْسَطيٌّ" في بعض ملامحه وممارساته وعقلياته.. مجتمعٌ باغَـتَـتْـهُ العَوْلمَة في وقت يحاوِل فيه القَفز من "الخيمَة" إلى "الدّولة" بلا واسِطة! يُحاول بناء "الدولة" قبل "المَدينة"، وإرساء "الوطنيّة" قبل "المَدَنيّة" !؟ وعلى الرّغم من ذلك كله، ها هو بفضل الله يستعِدُّ لتحقيق إنجاز حضاري وتاريخي عظيم يتمثّل في التناوب السلمي على السلطة طبقا للدّستور. وأملنا كبير في أن يكون تناوب 2019 تناوبا سلميّا، وديمقراطيا، وكليّا بين السلطة والمعارضة؛ وهو سيناريو محتملٌ جدّا إذا ما توفّرت شروطه وخَفّت العراقل دونه.
ما هي شروطه؟ وما هي العراقل دونه؟
-يتواصل- بإذن الله