فضلا عن كونها أكبر مدينة في الجزائر، و انها هي عاصمة هذا البلد الشقيق، فإن مدينة الجزائر، تتميز أيضا بوفرة و تنوع ما تحويه من تراث و آثار، تنوع يفرض على الزائر، التمعن فيه، فهو يعترض طريقك اينما اتجهت في المدينة، هنا كل حي من المدينة يشهدك على مرور حضارة ما، من هذا الشارع او من تلك الباحة.
و في هذه الورقة العجالة، نأخذكم معنا في صحيفة مراسلون، إلى داخل مدينة اكوزيم، المحروسة، البهجة، او الجزائر البيضاء (كلها اسماءها)، لنمر و لو مرور الكرام، نحن و انتم، على صفحات من تاريخ و حاضر هذه المدينة العريقة و التي أسسها الدزيريون، ذات يوم من القرن الخامس قبل الميلاد و استغل موقعها، الفينيقيون و القرطاجيون و الرومان و الموريتانيون و المرابطون و العثمانيون و الفرنسيون...، لتقوية نفوذهم في المنطقة:
حي القصبة، "تاج" تراث العاصمة الجزائرية، ينتصب هذا الحي على ظهر جبل يطل على البحر الأبيض المتوسط، مشكلا حصنا يغلق ليلا، لتأمين المدينة وله عدة أبواب، في كل جهة باب: باب الوادي من الغرب وباب الجديد في الجهة العليا وباب الدزيرة من جهة البحر وباب عزون من جهة الشرق.
يستقبلك حي القصبة، عند ابوابه، بقصص ذكريات و أخر عبر، في الحي كان يعيش، الحسين الداي و فيه إستمتع العثمانيون بحكم لم يدم طويلا ، حيث انتزعته منهم فرنسا، و قبل أن تنتشي هي الأخرى نصرها، لقنها رجال الثورة دروسا، كتبتها ممرات و حصون الحي و خرجت صاغرة، بعدما تاهت في ممرات و طرقات حي القصبة، معقل الثوار: جميلة بوحيرد و العربي ابن مهيدي و غيرهم.
في الحي أطلال عشرات المساجد (جامع كشتاوة و جامع سيد محمد و الجامع الكبير و الجامع الجديد...) و دور المدارس و فيه آبار و باحات، عاشت فيها مئات الأسر الجزائرية ردحا من الزمن...و فيه متاحف تحكي للزائر، عن الجزائر و عن ثورتها، يحدثك أحدهم عن البطل علي لابوينت و رفاقه، الذين قاوموا بشراسة القوات الفرنسية، بل إن عينك لن تخطو رسوما جدارية تخلد أبطال ثورة نوفمبر، في هذا الحي كما في باقي البلد، كل شي هنا يتحدث عن الصورة و عن فضائح و جرائم و هزائم فرنسا الاستعمارية، بعد 130 سنة من استعمار الجزائر.
باب الوادي، يحتضن في باحاته، موسيقيين و فنانين شعبيين، يرفضون نسيان أو تناسي الفنون الشعبية المحلية، فهم حراسها و بها يفتخرون و يخلقون الفرجة الدائمة بحييهم، في مختلف أحياء الجزائر، توجد مؤسسات و هيئات فنية و ثقافية، تستقطب الكثير من الجزائريين و زوار المدينة من مختلف الأعمار و هذا امر طبيعي، فمن البلد انطلقت قامات ثقافية و فنية كبيرة، شغلت أخبارها الوطن و العالم بأسره، هنا و في أحد هذه الأزقة او الشوارع، كان كتاب كبار، مثل مولود فرعون و لعمامري و مرتاض و خطيب ياسين و مستغانمي و هنا كانت وردة الجزائرية و قبلها إدير و شباب الراي معظمهم كباقي فناني الجزائر، مروا ذات يوم من هنا.
مدينة الجزائر حديثة ايضا، فهي كما انها تحوي آثارا معمارية لجميع الحضارات و العصور التي مرت بها، فإن بها أيضا أحياء كاملة، شيدت بنمط عصري، لا تتجاوزها أحياء باريس و لا روما بأي شيئ، أحياء وسط المدينة و أطرافها، تبنئك بتطور العمارة في هذه المدينة، التي تعتبر الأكبر في منطقة المغرب العربي، حيث تقابلك عشرات الدور الضخمة، المحاطة بأعمدة حديدية صفراء و سوداء، مشيدة على نمط العمارة الفرنسية و قد تظن نفسك في أحد شوارع مدينة الأنوار (باريس)، فهذه أحياء بناها الفرنسيون و لم يكونوا يظنون يوما، انهم سيذهبون عنها، و تشكل هذه الأحياء واجهة جد حديثة و راقية في مدينة الجزائر، و من شدة لمعان بياض جدرانها تحت اشعة الشمس، أخذت المدينة احد اسمائها، الجزائر البيضاء و كما أن في المدينة اهتمام بالأخياء، فإنها ايضا لا تنتسى أمواتها، حيث خصصت لهم مساحة كبيرة "مقبرة العالية" مساحة نظيفة و بها ورود و خضرة تشقها طريق اسفلتي، لا يوحي بوحشة المكان.
في الجزائر ايضا، اماكن تستحق الزيارة، ففيها ثالث أكبر مسجد
في العالم "جامع الجزائر الأعظم" و فيها نصب كثيرة للمجاهدين و للمقاومة و للعلماء و للشعراء و...في ساحة للشهداء و نصب مقام الشهيد، الذي يمكن للزائر الوصول إليه عبر الطريق العادي أو عبر "الجو" فهناك ناقلات كهربائية، تقوم بشكل دائم بنقل الزوار، من سفح الجبل، إلى قمته، حيث يقع النصب.
الحركة محمومة بالنهار، في مدينة الجزائر، من باب الزوار إلى الحراش، إلى بولوزداد او بن عكنون او باب الوادي...الشوارع مملوؤة بالناس طيلة النهار، حركية دؤوبة ذهابا و إيابا، و في ساعات الليل الأولى، تتوقف الحركة تقريبا، فالجزائر ليست مدينة ساهرة، جل الأعمال تتوقف ليلا، حتى المطاعم و المقاهي، فالناس هنا ليسوا "بطاليين" كما يقال باللهجة المحلية، فهم يستيقظون باكرا للعمل، لذا يلزمهم النوم باكرا ايضا.
و البنى التحتية في مدينة الجزائر، تعتبر هي الأخرى تحفا، مقارنة مع أكثر المدن الإفريقية، الطرق السيارة في كل اتجاه و قد يبهرك تعداد الجسور التي تربط بين أخياء المدينة المترامية على الجبال و في الوهاد، الطرق في الأنفاق و الشوارع هنا واسعة و ارصفتها ذات ألوان مختلفة و فيها للإنسان اهتمام، فقد ترى رصيفا بنفس عرض شارع، إلا انه خاص بالمارة دون السيارات، في الجزائر كذلك التراموي و مترو الأنفاق، و عكس مدن العالم الثالث، فإن لا تلاحظ أزمة نقل هنا، آه نسيت، فمحطة النقل النقل بحي خروبه، يخيل إليك انها مطار دولي، فهي تقع على مساحة شاسعة مغطاة بنسبة كبيرة و مجزاة إلى جناح للحافلات و آخر للسيارات الخفيفة، يتوسطهما عنبر عملاق، لا يختلف كثيرا عن عنابر المطارات الدولية، إلا انه يحوي بداخله انواع الخدمات التي قد يحتاجها المسافر و بأعداد أكبر: مطاعم و مقاهي و متاجر و بها نظام مضبوط بشكل جيد، و يسير يوميا مئات الحافلات و عشرات آلاف المسافرين...
في مدينة الجزائر ، يمكنك الجزم و دون مبالغة، بأن الحضارات، تصارعت هنا، و قدمت كل منها من أجود و اعتق ما لديها، لعله يبقى لها عنوانا شاهدا على مرورها من هذه الارض، التي لم يرضى اصحابها، أن تكون ملكا لغيرهم، رغم ان "ذلك الغير" استوطن و عمر، عمارة من ليس في برنامجه الرحيل، و تلاحظ أيضا و أنت في أول زيارة لمدينة الجزائر، أن البلد، ورشة كبرى، العديد من المشاريع و البنى التحتية، خاصة الطرقات، تقابلك الآليات و هي تعمل دون هوادة و كانها تسعى لإثبات، أن الجزائري في القرن الواحد و العشرين، يسعى هو ايضا لبناء بلده، و تكملة ما بدأه آباءه و أجداده.
أخيرا قد يظن الغير عارف، بأن الشعب الجزائري غير مضياف، نتيجة لتمدنه الكبير، لكن الامر ليس كذلك تماما، فهنا يحبون الضيف و يقدرونه و يمنحونه اهتماما خاصا، حتى في المطاعم، هناك من يسعى لدفع فاتورتك، كرما منه و تقديرا لك، رغم عدم معرفته بك مسبقا، فهم يدعونك لبيوتهم، يشاركونك تجاربهم و قصصهم، يستمعون لك ينفتحون عليك بدون تحفظ يذكر، ما يكسر الصورة النمطية لديك، عن ان المدنية معاكسة للضيافة. إنها الجزائر و شعب الجزائر.
باباه ولد عابدين - الجزائر - مراسلون