لم تعد أزمة الحدود الشرقية الملتهبة محصورة التداول في الحيز الجغرافي وقراه ونقاط مياهه ومراعيه ومنتجعاته، ولا بين المعنيين الرسميين والأمنيين المباشرين بإدارة ملف هذه الحدود على الطرفين، بل اتسعت لتصل إلى العواصم وتبادل الانذارات الدبلوماسية واستدعاء السفراء، وظهور الدلائل على نية العسكريين في مالي الإقدام نحو مزيد من التصعيد وفرض التأشيرة على الموريتانيين القادمين إليها ضمن زيادة حزمة التشدد واستعراض العضلات من خلال ميليشيا فاغنر ذات التدريب الخاص والعتاد العسكري والفني الحديث الذي جربته على حدود الجيران أكثر من مرة وهددت به حوزتهم الترابية واستباحت دماء العزل وممتلكاتهم .
الجارة مالي حلقة محورية من حلقات العمق الاستراتيجي الموريتاني ، وتتداخل تركيبتها البشرية اجتماعيا وثقافيا وروحيا مع التركيبة البشرية لموريتانيا بشكل بالغ التعقيد يعمقه اتساع الحدود على مدى استراتيجي واسع يتجاوز 2000 كلمتر، يتعانق في القليل المستوطن منها العدم مع العجز الاقتصادي والتنموي والاجتماعي وانضم إليهما العجز السياسي في أزمة تتدحرج نحو التصعيد منذ الانقلاب الأخير في باماكو وتتجه لنفق من الشكوك والخطابات الحادة والنبرة غير الودية اتجاه بلادنا بما لا يستطيع محلل معه معرفة إلى أين ستتوقف، بما يؤكد أن علينا الانتباه لما يعنيه تحول تهديد محتمل أصلا إلى خطر وشيك وأن من يعول في أمنه وسلامة أراضيه وحدوده على طيبة الجيران أو عجزهم يعتبر مفرطا في أثمن ما لديه إلى أبعد الحدود.
وكما قال أحد مفكرينا الاستراتيجيين القلائل في حديث سابق عن ظروف شبيهة بالتي نعيشها اليوم مع جارتنا الشرقية : في كل فترة ضبابية وشبه جنونية، تبين أن كل شيء فيها ممكن، علينا أن نحسب لأسوأ الاحتمالات، فهي تشبه فترة الحرب وفي فترة الحرب يحسب الحساب أولاً لأسوأ الاحتمالات.. خصوصا من بلد لم نكن نتوقع إلى عهد قريب من جانبه غير الخير، وتجبر خطواته الأخيرة وعقيدة حلفائه الجدد كل ذي حس استراتيجي سليم أن لا يتوقع منهما غير الشر .