نواكشوط/ الربيع أدوم/ الأناضول
بينما كان يقوم بأعمال منزلية في بيت أسياده، نودي على "العبد" الصغير إبراهيم، لينضم إلى اجتماع أعيان القبيلة في قرية "دار السلام" (ضواحي بوتلميت 150 كم شرق العاصمة نواكشوط)، وأبلغه أحد الأسياد الذين "يملكون" أسرته كعبيد، أنه تم اختياره، ليدرس في المدرسة.
وعلى الرغم من أن "العبيد" ليس من حقهم الالتحاق بالمدارس، فلا يوجد من أبناء "الأسياد" في القرية إلا 12 طفلًا، وبالتالي اختير إبراهيم وطفلان آخران من أبناء "العبيد"، لإكمال العدد، ليتسنى افتتاح المدرسة، فقد قررت الحكومة أنه لن يتم افتتاحها دون تسجيل 15 طفلًا.
حدث هذا منذ 47 عامًا، اليوم صار إبراهيم بلال أحد أبرز الحقوقيين الموريتانيين، ورئيسًا لـ"هيئة الساحل للدفاع عن حقوق الإنسان ودعم التعليم والسلم الاجتماعي"، التي تخوض اليوم أكبر معركة ضد "العبودية" من داخل فصول الدراسة في موريتانيا.
هذا العام ومع بداية الموسم الدراسي، أطلقت "الهيئة" برنامجًا لضمان تعليم ألف طفل من أبناء الأرقاء والأرقاء السابقين، والحيلولة دون تعرّضهم للتسرب المدرسي، وذلك ضمن استراتيجية بعيدة المدى تتضمن بناء ثلاث مدارس نموذجية في ثلاث جهات جغرافية مهمة (الشمال – الجنوب- الشرق) كـ"تمييز إيجابي" لصالح أبناء "الحراطين" (الأرقاء السابقون) الشريحة التي عانت من الرق والاستغلال لقرون في موريتانيا.
وبحسب أرقام الهيئة، فقد تم ضمان دخول 600 من أبناء الأرقاء إلى فصول الدراسة مع بداية العام، في مدارس مستقلة، وتدفع الهيئة نفقات تعليمهم، فيما ستتم مساعدة 400 طالب من أبناء الأرقاء في دروس تقوية مُعوّضة، حيث يدرسون في مدارس وثانويات عمومية ضعيفة الخدمات ما يجعلهم بحاجة لدروس خصوصية.
وبحسب آخر الإحصائيات، التي نشرها موقع المكتب الوطني للإحصاء في موريتانيا للموسم الدراسي الماضي 2015-2016، فإن عدد التلاميذ في موريتانيا بلغ 601 ألفا و364 تلميذًا، فيما بلغ عدد الطلاب في التعليم الثانوي 199 ألفا و920 طالبًا.
وأظهر تقرير حكومي موريتاني، اعتمد كأساس للخطة الوطنية للقضاء على تشغيل الأطفال (2020-2015) أن نحو 300 ألف طفل (أقل من 15 عامًا) عرضة لحالات من العنف والاستغلال، فيما تم إحصاء أكثر من 18 ألف طفل (5 إلى 14 عامًا) ضحايا العمل المبكر، وألف طفل يعيشون في الشوارع، فيما أشار حقوقيون تحدث إليهم مراسل الأناضول إلى أن أغلب هؤلاء الأطفال هم من أبناء الأرقاء والأرقاء السابقين.
هذا العام انضم الطفل، "محمد السالك ز." (13 عامًا) إلى المرحلة الإعدادية، حيث التحق بمجمع مدارس "المعارف" (مؤسسة تعليمية مستقلة) كطالب في السنة الأولى الإعدادية.
و"محمد" هو أحد أبناء الأرقاء في موريتانيا، وأخذ مكانه بين الطلاب، كنموذج للمشروع الجديد الذي أطلقته "هيئة الساحل"، وعندما التقاه مراسل الأناضول خلال زيارة للمدرسة عبر الطفل عن سعادته البالغة، حيث أنقذته الدراسة -حسب تعبيره- من العمل على عربة يجرها حمار (كارو) كجامع قمامة من المنازل.
ومجمع مدارس "المعارف" من بين المؤسسات التعليمية التي انخرطت في المشروع، وقدمت مساعدات لاحتضان عدد من الأطفال بالتنسيق مع "هيئة الساحل".
وقال مدير المجمع، يحي ولد بوبه، في تصريح للأناضول: "فكرة تسهيل دراسة أبناء الأرقاء والطبقات المهمشة عمومًا فكرة رائدة".
وأضاف: "كمربين نعتقد دائمًا أن تسليح الإنسان بالمعرفة أمر بالغ الأهمية، حيث لا يمكن أبدا استغلال شخص متعلم، والفكاك من التخلف وكل الظواهر الاجتماعية السلبية يكمن في تعليم الناس، بهدف تحصينهم".
وإذا كانت الصدفة قادت المناضل الحقوقي إبراهيم ولد بلال، للالتحاق بالدراسة في سبعينيات القرن الماضي، فإنه اليوم يتمنى أن يكون "حصول أبناء الأرقاء على حقهم في التعليم بناء على خطة محكمة واستراتيجية بعيدة المدى وليست مجرد ضربة حظ".
وقال "ولد بلال" في مقابلة مع الأناضول: "كأحد أبناء العبيد في موريتانيا قادتني الصدفة لأتعلم، كانوا فقط يريدون إكمال الرقم 15 فاحتاجوا ثلاثة كنت أحدهم، اليوم أعرف جيدا أن دخولي للمدرسة الابتدائية كان نقطة تحول في حياتي، كنت حينها أعاني مما يعاني منه طفل مستعبد، يسكن مع والدته المطلقة في بيت أسيادها، كنا نعيش على بقايا الطعام، ونعيش تحت نظام الاسترقاق، ولا نمتلك حتى تصورًا حول المستقبل".
وأضاف: "اليوم أريد أن تكون المدرسة نقطة تحوّل في حياة أبناء الأرقاء والأرقاء السابقين".
كانت الفكرة حُلمًا بالنسبة لولد بلال؛ لا سيما بعد صدور أول قانون في موريتانيا يهدف للقضاء على الرق ومخلفاته عام 1981.
لاحقا ينال إبراهيم شهادة البكالوريا (الثانوية العامة) عام 1983 بمدينة روصو (جنوب)، ويلتحق بالمدرسة العليا للأساتذة ليتخرج منها عام 1987 أستاذا للفلسفة.
كانت سنوات دراسته كافية لينشط كطالب في قضية مناهضة الرق، ويواصل نضالاته لإنقاذ أبناء شريحة "الحراطين" التي ينتمي إليها، حيث نشط في "حركة الحر"، منذ 1986، وهي حركة مناهضة للعبودية تأسست 1978، وظل مناضلًا فيها، قبل أن ينضم 2000 لحزب "تكتل القوى الديمقراطية" (الاشتراكيين).
وفي 5 نوفمبر 2008، أطلقت "مبادرة انبعاث الحركة الانعتاقية" المعروفة بحركة "إيرا" (غير مرخصة) بزعامة، بيرام ولد الداه، وشغل فيها إبراهيم ولد بلال منصب نائب الحركة التي اعتقل قادتها وزعماؤها مرارا، وهو أمر نال منه ولد بلال نصيبًا، لمعارضته القوية لعدم تبني الحكومات المتعاقبة إجراءات قوية تجاه ظاهرة "العبودية".
ومنتصف يناير/كانون الثاني 2015، حكمت المحكمة الجنائية بروصو عاصمة ولاية اترارزه (جنوب) بحبس إبراهيم عامين لمشاركته في مسيرة غير مرخصة مناهضة لـ"العبودية"، ليقضى سنة و6 أشهر في السجن ويخرج بأمر من المحكمة العليا.
وفي يوليو/تموز 2016، منح وزير الخارجية الأمريكي السابق، جون كيري، جائزة "مكافحة الإتجار بالبشر"، لولد بلال في واشنطن؛ تكريمًا لجهوده في مكافحة "العبودية"، ومساهماته في الدفاع عن قضايا الأرقاء ضمن مجموعة منظمات، وناشطين أثمرت جهودهم عن إصدار موريتانيا قانون "تجريم الرق" عام 2007، و2015.
وفي 7 مارس/آذار 2017، أعطت الحكومة الموريتانية ترخيصا لـ"هيئة الساحل" برئاسة ولد بلال، وعضوية عدد من الحقوقيين.
وأعرب ولد بلال عن اعتقاده بأن "الفقر يضرب الأرياف التي يقطنها العبيد، والعبيد السابقون الذين يعيشون ظروفًا صعبة في المدن والأرياف ما يجعلهم يشغلون أبنائهم في رعي الأغنام والأعمال المنزلية، وبالتالي فإن الأهالي يرفضون إرسال أبنائهم إلى المدارس".
وتطرق إلى تجربته كعبد سابق، قائلًا: "التعليم يؤهل الإنسان للبقاء في محيطه، لأن القطيعة الاجتماعية والكراهية والعنف هي أمور لا تساهم في بناء مجتمع متصالح، ولا تدعم التعايش، والإنسان المتعلم هو الوحيد القادر على خلق التوازن الصعب بين مناهضة ظلم الاسترقاق من جهة ونبذ الكراهية من جهة أخرى".
ملف "العبودية" في موريتانيا يثير الكثير من الجدل، حيث تدين حركات حقوقية البلاد باعتبارها "أكبر قلاع العبودية في العالم"، بينما ينكر آخرون وجودها (وبينهم الرئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيز).
من جانبه، قال حننا ولد أمبيريك، الناشط الحقوقي والقيادي في حركة "إيرا" (غير مرخصة)، إن "العبودية للأسف لا تزال موجودة في موريتانيا، نسبة الأرقاء تبلغ 20% من السكان وهو ما يناهز 600 ألف شخص يقبعون تحت نير العبودية"
وأضاف في تصريح للأناضول: "إطلاق مبادرات للتعليم من حيث المبدأ، أمر مهم، لكننا نعتقد أنه من واجب الدولة أن تقدم خدمة التعليم لأبناء الوطن، لأنه حق أساسي من حقوق الإنسان".
واستدرك بالقول: "أما دور المناضلين فيجب أن يتوجه في الوقت الحالي إلى كشف حالات العبودية، الضغط على السلطات من أجل تطبيق قوانين مكافحة الرق، رفع العراقيل أمام الترخيص للجمعيات الحقوقية، ووقف سجن المناضلين وحبسهم وتعذيبهم، لأن هذه القضايا تشكل أولوية حقيقية".
وبحسب تقرير لمنظمة "ووك فري" الأسترالية عن العبودية في العالم عام 2016، فإن من يقبعون تحت نظام الاسترقاق في موريتانيا يصل عددهم إلى 43 ألف شخص، ويورث وضع الرقيق من جيل إلى جيل، ويتجذّر بعمق في الطبقات الاجتماعية والنظام الاجتماعي.
لكن المحامي في منظمة "نجدة العبيد" (غير حكومية) وأكثر المحامين المباشرين لقضايا "العبودية" أمام القضاء الموريتاني، العيد محمدن مبارك، يأخذ قضية الأرقام في مجال العبودية بكثير من الحذر.
وأوضح أنها "تخضع لمعياري التهويل أو التحجيم، في ظل غياب أي دراسة موضوعية -حتى الآن- حول أعداد من يخضعون لنظام الاسترقاق".
وأضاف في حديث للأناضول: "على الرغم من أن حقوقيين اقترحوا منذ 2007 القيام بدراسة لإحصاء أعداد الأرقاء، وعبرت الامم المتحدة عن استعداداها لتمويل تلك الدراسة، لكن يبدو أن الموضوع لم يحظ بموافقة الحكومة الموريتانية"
وفي ظل ضبابية أعداد من يخضعون لنظام "الاسترقاق" في موريتانيا، فإن المناضل الحقوقي "ولد بلال"، الذي اعتزل السياسة عام 2009 يركز على أعداد نوع آخر، أعداد أولئك الذين سيحصنهم التعليم حتى لا يكونوا يومًا ضحايا للعبودية.