قبل الإجابة عن هذا السؤال مباشرة، لا بد من عملية استقراء للعلاقات التاريخية بين إسرائيل وموريتانيا، وهذا ما سيعود بنا إلى عام 1996 في عهد الرئيس الأسبق معاوية ولد سيدي أحمد الطايع، الذي شهد حكمه كتابة عنوان: موريتانيا الدولة العربية الثالثة التي تقيم علاقات دبلوماسية مع إسرائيل بالرغم من التباعد الجغرافي بين الدولتين. بدأت العلاقات الدبلوماسية بين تل أبيب ونواكشوط بعد تعيين (غابريل آزولاي) مكلفًا بالأعمال في العاصمة الموريتانية نواكشوط، وتحديدا من داخل السفارة الإسبانية عبر مكتب إسرائيل الدبلوماسي الوليد.
انطلقت سلسلة من الزيارات الرسمية للمسؤولين الموريتانيين إلى تل أبيب، وكان أول الزيارات الرسمية من توقيع وزير الخارجية الموريتاني آنذاك الشيخ العافي ولد محمد خونه، وفي 1999-2000 اتسعت دائرة العلاقات بين إسرائيل وموريتانيا بدفع من الولايات المتحدة الأمريكية؛ الحليف الإستراتيجي لإسرائيل، إلى مستوى تعيين السفراء ثم توقيع الاتفاقيات الثنائية في المجالات الأخرى.
التطبيع يخدم إسرائيل بالدرجة الأولى، لهذا تستميت دائمًا في السعي وراءه بدعم وتنسيق من حلفائها الإستراتيجيين، عندما تقبل موريتانيا التطبيع، تنال إسرائيل تنسيقًا أمنيًّا في المنطقة وانتعاشًا اقتصاديًّا من خلال توسيع دائرة الصادرات الإسرائيلية، إضافة إلى انسيابية مرور داخل نسيج المنطقة؛ ما يسمح لها بتحديد خططها المستقبلية الإقليمية، فبعد إعلان الدولتين لتوقيع اتفاقيات التعاون المشترك، بدأت زيارات لوفود إسرائيلية رسمية رفيعة المستوى إلى نواكشوط في إطار دبلوماسي وإلى مدينة "أطار" في إطار مجالات أخرى، وانتشرت بضائع إسرائيلية في السوق الموريتاني، ثم تغلغل وجود الوفود الإسرائيلية إلى الداخل الموريتاني تحت ذريعة "بعثات طب العيون" رغم أن الشعب الموريتاني يرفض هذه العلاقة بمؤسساته وهيئاته ومجتمعه المدني وفنانيه ومثقفيه، الجميع يتخذ موقفًا واحدًا ضد عملية التطبيع إلا ما ندر، تحت قاعدة أن للحكومات والدول سياستها وإكراهاتها، وللشعب أيضًا حريته فى رفض هذا النوع من العلاقات، نظرًا إلى البعد الإسلامي وموقع القضية الفلسطينة عند المواطن الموريتاني.
بعد سنوات من دفء العلاقات الموريتانية الإسرائيلية، جاء يوم 1 فبراير/ شباط 2008 يحمل معه هجومًا مسلّحًا على السفارة الإسرائيلية معلنًا عن بداية لتقليص دائرة التوسع الإسرائيلي في الجغرافيا الموريتانية، غادرت البعثة الدبلوماسية الإسرائيلية نواكشوط عام 2009، لكن لإسرائيل دائمًا عينٌ على الدول التي سبق وأن حققت معها نجاحًا في التطبيع، خصوصًا إذا كانت هذه الدول ذات حكم عسكري يتسم بالضعف، يمكن إقناعه بفكرة وجود الخطر الاستراتيجي المشترك، إضافة إلى الاستفادة من التطور الإسرائلي التقني، خصوصًا في المجال السيبراني لدعم استمرارية حكمه وتأمين مخاوفه.
وهذه "المواد التسويقية" يمكن أن تلقى رواجًا عند النظام الموريتاني القائم خصوصًا إذا ما استخدمت دولة بحجم الإمارات العربية المتحدة ثقلها، وهي التي تملك الوسائل والمقوّمات مع النظام الموريتاني التابع لسياستها. مسار عملية التطبيع طويل ومعقد، ويمر بعدة محطات قبل أن يخرج رسميًّا، أول مسار للتطبيع هو البعد التنسيقي، الذي منه الزيارات السرية، وهذا ما جاء في مطلع عام 2020، حيث تحدثت وسائل إعلامية إسرائيلية عن زيارات متعددة قام بها وزير الدفاع الإسرائيلي "بنيامين بيني" لدول عربية وإسلامية تمهيدًا لبناء جسور التطبيع، طبعًا جاء اسم موريتانيا من بين تلك الدول التي يمكن أن تكون قد شملتها الزيارة.
أعتقد أن مؤشرات التطبيع مع إسرائيل تحققت منذ مدة، لكن وفق المنهج البراغماتي، حيث تُبقي الحكومة الموريتانية على ما تريده الإمارات، وتُبقي أيضًا على الرفض الشعبي من جهة أخرى، في تصوري أن الملف لن يتطور إلى علاقات رسمية كاستئناف عمل السفارات إلا في حال كان النهج البراغماتي لا يرضي الإمارات، أو بمعنى أصح لا يستجيب لأجندة إسرائيل الإقليمية والدولية على الأقل في الوقت الراهن، بحكم أن وزارة الخارجية الموريتانية دأبت على تصدير أكثر من بيان تأييدًا لسياسة "المحور الإماراتي"، التي من بينها موضوع التطبيع، في إشارة واضحة إلى أنها قد تكون المطبّع التالي، دون أن يقدّر النظام حجم الرفض الشعبي والسياسي لمشروع التطبيع الذي وصل الأسبوع الماضي إلى مرحلة متطورة، خصوصًا بعد أن تحدثت وسائل إعلام إسرائيلية من بينها صحيفة "إسرائيل اليوم" عن تقدم المباحثات بشأن التطبيع مع دول إسلامية من ضمنها موريتانيا، وحين يتحدث الإعلام الرسمي الإسرائيلي عن موضوع التطبيع ويصبح نقاشًا محوريًّا على قناة "I24Newes"، فهذا يعني أنه بات واقعًا.
الكاتب/الصحفي
السلطان البان