كلمة في الندوة التأبينية التي نظمها مساء اليوم اتحاد الادباء والكتاب المورتانيين للشاعر الشيخ ولد بلعمش رحمه الله تعالي
بغرفة التجارة والصناعة
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ
صدق الله العظيم و بلغ رسوله الكريم و نحن علي ذلك من الشاهدين
بختام شهادة عفوية سطرتها باللغة الفرنسية في حق فقيدنا الغالي الشيخ بلعمش رحمه الله تبادرت لي سورة العصر فلزمت الصمت في حرمها وتركت لها خلاصة الكلام. ذلك لأنه مهما قيل من التصنيفات لتأبين الشيخ كعلم من اعلام الثقافة والادب و رمز من رموز العطاء الفكري الذين جسدوا أفكارهم في سلوك متميز تبقي الخلاصة المذكورة في السورة الكريمة شاهدا حيا من كلام الحي سبحانه تعالي الذي لا يموت ابدا علي حياة النجم الذي غاب عنا و عنوانا للوعة غيابه.
لقد اقتحمت حياة الشيخ رحمه الله و جداني ذات صباح من صباحات الفضاء الافتراضي قبل ما يناهز ستة سنين كلها اعجاب و حصاد و كان ذلك في بدايتها حين و قفت علي قصيدته ’’ خواطر محمود الحزينة ’’ فلم اتمالك حتي وجدت نفسي منهمكا في ترجمة معانيها العميقة الي اللغة الفرنسية و من عجائب المصادفات ان اقف بعد ذلك بأسابيع علي رسالة بالبريد الخاص يطلب مني فيها ترجمة لها .
كان رحمه الله يريد لحقيقة الظلم التاريخي الذي تمثل في الممارسات الاسترقاقية البغيضة ان تتجلي في يواقيت الكلام و ان تصل معانيها السامية الي مسامع الجميع و علي وجه الخصوص الي النخبة المفرنسة التي طالما باعد بعض الظن بينها و بين نخبة المثقفين العروبيين .
كما كان ذلك ايمانا منه بأهمية تجاوز النرجسية اللغوية بغية إقامة جسور التواصل بين حملة الأفكار بكل اللغات الوطنية و الأجنبية و انطلاقا من اعتقاده , و هو الذي لا تقبل المزايدة علي تعلق قلبه باللغة العربية ,, بان ’’ الثقافة خيار و ليست بالإجبار’’ و في ذلك يقول : ’’ أيام كانت اللغة العربية نورا يملأ الأفق في هذه البلاد كتب بأحرفها غير العرب رسائلهم و ألَّفَ بها أشياخهم و اعتزوا بها ، فكانت خيارهم و فخرهم ، فَحَملةُ لغة القرآن على هذه الأرض لم يفرضوها غَلَبة ، لقد كانت سلطة العربية هنا سلطة محبة و لم تَكُ سلطة قوة .ما كان عمل أجدادنا للعربية رياءً و لا مَنًّا ، ملكوا القلوب فارتاحت لهم الألسن .لم يجعلوا من العروبة غولا يتوهمه الغرب الإفريقي ، و إنما عملوا بفطرتهم و صفائهم فرأى الناس فينا رُسُلَ الخير التي عنها يبحثون.’
انتهي الاستشهاد و تبقي الي الابد شهادة الحق باننا بأمسِّ الحاجة لأن ننظر من هذه الزاوية التي تركها الفقيد في سجل ’’ اصل الزوايا ’’ الذهبي الداعي الي الدفاع عن ثقافتنا الاصيلة بالمحبة و التي جسدها في سلوكه الأخلاقي الرفيع حيث انه انتهج في معالجته شعرا و نثرا لمختلف القضايا الاجتماعية والوطنية أسلوب الاعتدال ( و بالمناسبة كثيرا ما تخطر ببالي المقاربة بين لفظة الاعتدال بالفصحي و مفهوم اتعدال باللهجة الحسانية ) , و هنا لا يسعني الا ان اعبر عن قناعتي بان جمع و نشر اثار الفقيد علي شكل ’ أعمال كاملة’ يعد من اهم الأولويات لما له من فائدة بينة في ترسيخ نهج الاعتدال الذي سلكه لأجيال الحاضر و المستقبل .
تجدر الإشارة الي ان معرفتي به تزامنت مع أيام ما يسميه البعض بالربيع العربي في حين يعتبره اخرون موسم الانهيار و قد رأيت مذ البداية الي النهاية في كل مساهماته رغم اختلا ف المواقف و حساسيتها الحادة أحيانا اسمي آيات الايمان والعمل الصالح و ازكي التوصيات بالحق وبالصبر التي كان لها تأثير بالغ علي شباب عصره. لقد جمع في انتاجه البديع بين الحماس الرومانسي لما يتطلب الزمان المتغير من الانعتاق و المحافظة علي الثابت في الازل من الاخلاق .
و بالجملة لقد فاضت المحبة الخالصة للجميع من حروفه اللذيذة فغلب اعتداله الطبيعي علي مواقفه التي ستبقي الي يوم الدين بمثابة اثار الغائب الحاضر في السجال النخبوي حول شتي المسائل المطروحة في حياته.
اما في ما يتعلق بوفاته رحمه الله فقد علمت بها في احزن صباح من الصباحات التي عرفتها طيلة سنوات الفضاء الافتراضي المنصرمة وذلك حين وقفت علي نعيه في منشور بقائمة الاحداث التي اعتدت ان اتصفحها بسرعة فكان اول ما خطر ببالي الصبر الجميل الذي عرفته فيه في مناسبات اليمة امتحنه الله بها حين رأيت النور الساطع بوجه البشوش علي الدوام يصاحب حديثه في مقام التسليم بقضاء الله عن اليقين الذي يكشف ستار الحقيقة عند الموت.
راجعت بسرعة في لحظة الصدمة تلك السنين التي تعد رغم فواتها السريع و رغم عمره القصير ,, بحكم الإنتاج و النتيجة بمثابة عمر نوح و بعد امتثال المراجعة المنصوص عليها في الذكر الحكيم تمثل لي في خبر نعي الشيخ رحمه الله سقوط النجم الذي يرتبط عندنا في المخيلة الشعبية بموت اقطاب الصالحين ,, فتذكرت ان معرفتي بالشيخ سبقت دخوله افتراضيا في وجداني حيث ان اسمه العائلي الأصيل رسخ في ذهني مذ عهد الطفولة بحي امباركه واعماره في اطار ربما نتيجة لمعاصرة احد شقيقه الكبار رحمها الله و كذلك لارتباطه باسم اول شارح لأضاءه الدجنة في هذه البلاد كما تذكرت و سأتذكر ما دمت حيا ,, ان شاء الله ,, انني عرفته في الواقع و عرفت في سلوكه المثالي إضافة الي كرمه العفوي تلك الطاقة المضيئة التي صعدت الي السماء لتحاور النجوم بعد ان ملات الدنيا و شغلت الناس فصار بمثابة النجم الذي لا يقاس عمره بمشاهدة سقوطه و انما بألاف السنوات الضوئية ,,, لقد رأيت في حياته و في وفاته المفجعة سيمات الصلاح التي تتطابق مع مقامات الصفاء ,, لقد عاينت فيه مواصفات ’’ شيخنا ’’ كما وردت في منتخب التصوف ,,, سلام منا و رحمة الله علي الشيخ في العالمين ,, انه كان من اشياخنا الصالحين ,,,,
عبد القادرولد محمد