الديمقراطية تنتصر ..ولكن!
الديمقراطية تنتصر فهل سننتصر نحن معها، بها ولها؟
الديمقراطية كالعلم تتقدم بأخطائها. هذا الأمر يكاد يكون قانونا كونيا، يصدق في كل ميادين الحياة البشرية. الديمقراطية عمل تراكمي لأنها تعيش وتنمو وتتقوى من تراكم الخبرات والأخطاء البشرية ما لم توصلهم إلى نقيضها: قلب النظام بالقوة، أو التحول إلى الفوضى والحرب الأهلية.
انتصرت ديمقراطيتنا أولا عندما عجزت السلطة التنفيذية في وقت ليس منا ببعيد عن خرق الدستور والإخلال بقاعدة التناوب على السلطة لأول مرة، الأمر الذي أوصلها إلى مرحلة مهمة من النضج جعلت السواد الأعظم من النخبة المدينة والعسكرية مقتنعا بوجود وسيلة وحيدة للوصول إلى السلطة: إرادة الشعب التي يعبر عنها من خلال صناديق الاقتراع. وقد تحتاج تلك التجربة إلى بعض الوقت لكي تترسخ وتتحول إلى قاعدة، وتنتقل من إيمان النخبة إلى إيمان الشعب فتصبح جزءا من الثقافة ومن التقاليد المرعية التي تمارس سلطة الإكراه على الجميع.
انتصرت ديمقراطيتنا كذلك عندما مكنت شعبنا من اختيار نظام سياسي أعاد الثقة بين الشركاء في العملية السياسية، وقيادة لا تفكر في نفسها في المقام الأول، وهذا هو الأساس المتين الراسخ الذي تشتق منه سائر المزايا الأُخر: بدون الاحترام المتبادل لا توجد ثقة متبادلة، وبدون الثقة المتبادلة لا يوجد حوار ولا تنمية.
انتصرت ديمقراطيتنا كذلك، عندما قررت السلطة التنفيذية احترام الكثير من تعهداتها وأكتفي بذكر مثال واحد منها يحسبونه هيّنا وهو في الحقيقة مشروع في غاية الأهمية وأساس راسخ للتعايش والعدالة بين مكونات شعبنا ألا وهو مشروع المدرسة الجمهورية الذي تضمنه برنامج رئيس الجمهورية الانتخابي، وأصبح تنفيذه والسير فيه مهما كلف الثمن في الوقت الحالي - وفي حدود علمنا- هاجسا قويا عنده، وقد أطلق هذه السنة على أعتاب طفرة متوقعة في اقتصادنا الوطني مع قرب الدخول في مرحلة إنتاج الغاز، ونأمل أن ينمو ذلك المشروع ويتعزز شيئا فشيئا وأن تتوفر له الشروط الكافية للتحقق على نحو كامل.
انتصرت ديمقراطيتنا أيضا عندما احترمت السلطة التنفيذية قرارات السلطة القضائية في موضوع الرئيس السابق وسمحت له بالخروج من البلاد لأسباب إنسانية رغم استمرار المتابعة القضائية وحجم التهم الموجهة إليه.
انتصرت ديمقراطيتنا أيضا عندما رخصت لبعض المنظمات الأهلية العاملة في مجال الرق بمزاولة عملها تحت مظلة القانون رغم أن تلك الخطوة لم تكن أبدا محل إجماع وطني شعبي أو سياسي في البلد، خطوة نأمل أن تعقبها خطوات أخرى في نفس الاتجاه إذا توفرت الشروط والظروف المناسبة، السلطة تنحني أمام القانون ولا تنحني أمام الخواص.
انتصرت ديمقراطيتنا بسعيها الدؤوب إلى الوصول إلى دولة القانون بعد تزايد المؤسسات المعنية بإقامة دولة القانون وعلى رأسها المؤسسات العاملة في مجال حقوق الإنسان، ولم يقتصر الأمر على الزيادة الكمية في الهيئات بل تعدى ذلك إلى التحول النوعي في أسلوب تعاملها مع القضايا ومع من يعدّون في عرف العامة، أو الذين جعلوا أنفسهم خصوما لها.
وستنتصر ديمقراطيتنا، وسننتصر معها ولها، عندما ننجح في إيجاد الوسائل الكفيلة بخلق فائض من الثروة يؤدي تنمية مستديمة متوازنة، بين الجهات والفئات ويخفف من البطالة، ويعزز استقلالنا وسيادتنا الوطنية في كافة الميادين ويخفف من وطأة التبعية واعتمادنا على الخارج.
ولكن ديمقراطيتنا ستنتصر أكثر عندما تنجح في وضع قاعدة متينة للتوزيع العادل للثروة والمعرفة والسلطة، وتقضي على التفاوت والفقر متعدد الأبعاد، وهو تحدٍّ حقيقي لا نزال نواجهه.
ديمقراطيتنا ستنتصر أكثر وأكثر عندما تتمكن من خلق الظروف الصحيحة الملائمة اقتصاديا واجتماعيا التي لا تجعل حياة الأقل حظا في المجتمع من المهمشين والضعفاء والمحرومين صعبة التحمل، والتي تساعد في إحداث تحول نوعّي في حياتهم ومعاشهم.
ديمقراطيتها ستنتصر بالفعل لو آمنّا جميعا بأنها ناقصة، وأن من شأنها أن تكون كذلك، رغم أن صمودها في وجه المتغيرات الدولية (جائحة كوفيد والحرب الأوكرانية وأزمات الجوار الإقليمي...) والتحديات الداخلية (مسألة التفاوت والمسألة الثقافية..) هو بالفعل دليل على نضجها النسبي وهو ما يبعث في الحقيقة على ثقتنا بها ويبرر سعينا الحثيث إلى حمايتها.
ومع ذلك بدأت للأسف بعض الأصوات ترتفع، ودأب البعض منها من حين لآخر على نشر البيانات والتصريحات هنا وهناك والقيام بحملات انتخابية سابقة لأوانها بغض النظر عن وجاهتها وعن آثارها المحتملة على الجميع بمن فيهم تلك الجهات التي تصدرها.
لا بد لهؤلاء جميعا أن ينتصروا على ذواتهم وعلى منازعهم الشخصية وطموحاتهم الفردية، وأن يعرفوا أن الروح الديمقراطية تتعارض مع الدعوة الصريحة أو المبطنة للانقلابات، ومع التحريض غير المسؤول على الفتنة والحرب الأهلية، وعليهم أن يعرفوا أن أسوأ أشكال الديمقراطية أفضل من فوضى لا تنتهي ومن حروب أهلية تأتي على الأخضر واليابس، فلندع الحنين إلى مراحل الاستقطاب واستدعاء الفتنة واستعداء الخصوم السياسيين وإثارة المشاعر والتجييش المتبادل... وقد عرفنا جميعا مآلاتها وعواقبها، ولنترك الهوس المحموم والتسرع في طلب المكاسب، شخصيةً كانت أو طائفية أو حزبية، ولنعمل جميعا على استكمال ما تبقى من لبنات الصرح الديمقراطي ومن تنمية وإصلاح للاختلالات في التوزيع بالهدوء والمسؤولية وفقا لما تفرضه روح المرحلة في ظل السكينة والاستقرار اللذين أنعم الله بهما علينا من جملة ما أنعم به علينا من نعم باطنة لا نكاد نلقى لها بالا لديمومتها، لكننا سنشعر حتما بقيمتها عند زوالها في محيط إقليمي كله أو جله هائجٌ ومائجٌ تتوالد فيه الأزمات والقلاقل والاضطرابات كل يوم، "ويحذّركم الله نفسَه واللهُ رؤوفٌ بالعباد" صدق الله العظيم.
هذا ليس درسا في الأخلاق على أهميتها ووجه الحاجة إليها دائما، بل هو درس في السياسة العملية المفيدة للبلاد والعباد.