توضيح بشأن كف فئات المجتمع عن البذخ في المناسبات الاجتماعية

ثلاثاء, 26/07/2022 - 09:50

توضيح من منتدى السوسيوليجيين الموريتانيين

 

لقد تضمن بيان مجلس الوزراء المنعقد الأربعاء 20 يوليو 2022 تعليمات رئاسية بتوعية فئات المجتمع حول البذخ في المناسبات الاجتماعية، وتخلل ذلك أنشطة حكومية لتنفيذ تلك التعليمات مع جهات معينة، إلا أن الجانب الاجتماعي بما ينضوي عليه من ترميز لأنشطة البذخ والعطاء، وما يحتويه كذلك من ضرورة إسماع رأي المختصين حول مسألة اجتماعية وتغيرها إيذانا بتغير العقليات التي تدفع إليها، حتّم علينا في منتدى السوسيولوجيين الموريتانيين توضيح نقاط معينة، تتعلق بوضع المجتمع ذاته وتفصيل طبعه الذي يدفع إلى ذلك، مع رمزية الفعل ذاته (البذخ) والقيم السوسيو- ثقافية التي تدعو إليه، وتجذره في المجتمع، ومن أجل كذلك التعالي على التعاطي المتعارف عليه مع كل القرارات والمراسيم، والتي تجعلها تُتداول غالبا في ميادين السياسية حتى يتم تمييعها وتخرج عن مقصدها الطبيعي، ونعود للمربع الأولي.
أولا مجتمع مستهلك.
إن النظر إلى المجتمع الموريتاني واقعيا، تحكمه رؤيتان، رؤية تجعل النظر منصرف إلى تشكيلات المجتمع التقليدية (ما قبل الدولة) وما تنضوي عليه من ثقافة وقيم ترفض الكسب والنظام وتمجد الكسل والاستهلاك، وتلك قيم لا تزال الحاضرة رمزية بقوة في الساحة وتؤثر على الفعل الاجتماعي، بل وتوجه الفعل الفردي في كثير من الأحيان وتفرض عليه مسلكيات معينة يدخل فيها ما يدخل من استهلاك ورفض للإنتاج وما يصاحب ذلك من البذخ والتبذير.
أما الرؤية الثانية، هي رؤية مجتمع الدولة وما تمليه تلك الرؤية من تغيب للحس التقليدي في حضور المؤسسة العصرية، وما تفرض كذلك دلالات التعامل مع الفرد كمواطن له حقوق وعليه واجبات، بدل الفرد كعضو في قبيلة أو جهة له قيم وطقوس خاصة تفرضها عليه ضرورات القرب من النسب الجامع والمكانة الكبيرة في المجتمع، وهذه الرؤية الثانية وإن كانت حاضرة في التفكير بالاستفادة من المؤسسة ذاتها وما تمنح من امتيازات مادية يبدو أن وقعها الاجتماعي كبيرا في ظل غزو عقليات ما قبل الدولة، لمجتمع الدولة وتأثيره على حركة التنمية الشاملة.
إن الدولة فكرة قبل أن تكون معطى جاهز، والفكرة لا بد أن تمر بمراحل تنشأ خلالها وتنمو وتتطور، أو تُأقلِم الفكرة الطبيعة الاجتماعية لصالحها، ذلك أن المجتمع الذي نعيشه لم يُنتج الدولة من طبيعته الخاصة، ولا زالت غريبة على الفهم والتعاطي خلال المسلكيات والعقليات، وتلك أمور تجعل المساحة الفارغة من جراء ذلك العجز، وتملأ باستيراد عقليات الماضي والدفع بها كوسيلة لتعزيز التصنيفات الاجتماعية، في مجتمع الدولة، وهو أمر يحي ثانية التناقض بين القديم والحديث، في الوقت الذي يعرقل تعزيز الدولة كفكرة في الأذهان.
ثانيا رمزية البذخ والتبذير "المعنى الاجتماعي"
إن الظر إلى التبذير من الناحية السوسيولوجة، بالاعتماد على المعنى اللغوي "إنفاق المال في غير حقه" مخلٌ بالمعنى الاجتماعي، كذلك نفس الأمر ينطبق على البذخ من الناحية المفاهيمية، وما يعنيه في معناه اللغوي من تكبر وإفراط، حيث أن المسالة التي يجب أن نطلق منها في سبيل توضيح رؤية علمية حول الموضوع، هي دلالات المعنى الاجتماعي لفعلي التبذير والبذخ كأنشطة اجتماعية تحضر في ميدان التنافس السياسي والاجتماعي في المجتمع، مع اعترافنا ضمنيا بأنها تُحي قيّما قديمة تتعالى على الدولة كمعطى واقعي وكمفهوم وفكرة حيّة.
مثل هذه الظواهر ليست غريبة على السوسيولوجيا والانثروبولوجيا، وتوجد في الغالب كما أشرنا سابقا في مجتمعات ما قبل الدولة، وقد سكّ فرانز بواز مفهوم "البوتلاتش" الذي اشتقه من ثقافة قبائل الهنود في شمال الشريقي لأمريكا، واشتغل عليه موس، باعتباره فعلا يحمل في طيّاته التنافس والوجاهة الاجتماعية، فالذي يقدم "البوتلاتش" ينتظره أمران، رد الفعل أو التفوق على الخصم، أي أن "البوتلاتش" تحمل عطاء وإسرافا للمال العام في المناسبات الاجتماعية من قبل شخص معين وفي تحدي لشخص آخر هو المعطي له، ويجب أن يرد العطاء بعطاء يفوقه، وإلا فإنه مهزوم وتتأثر مكانته الاجتماعية ووجهاته بتلك الهزيمة.
حاول بير بونت أن يقارن بين ظاهرة "البوتلاتش" وظاهرة "الفيش" في المجتمع الأميري الحساني، كنوع من التحدي يتجلى في ميدان التنافس الاجتماعي بعطاء يحمل في معناه نوعا من التحدي، وعلى المنافس أن يرد التحدي أو يعلن الهزيمة، وهي كلها أفعال تتم في جو من التنافس الاجتماعي والسياسي، وتحمل معاني البذخ والتبذير في طبيعتها.
إن المعنى الذي ينطوي عليه فعل البذخ والتبذير في موريتانيا حاليا يحمل في طيّاته إلى جانب استجلاب القيم التقليدية للدولة، طبيعة التنافس السياسي والاجتماعي بين من يملك ومن لا يملك، من جهة، ومن جهة أخرى بين الذين يستأثرون الآن بعائد مادي جيد، فيما بينهم وبين طبيعة رغبة التميز واستحضار المكانة الاجتماعية في المناسبات دوما، وهو فعل ينتج عن تجسيد معناه محاكاة الذين كان لهم وزن اجتماعي معين قديما ولم تعد عائداته المادية متاحة لهم حاليا، مما يجعلهم يتمظهرون بواقع مخالف لواقعهم، وإن كان أساسه التاريخي شرعي ومتمثل في الذهن، فإن واقعه الاجتماعي مخل.
ختاما، إن فعل البذخ والتبذير، وإن كانت تعليمات رئيس الجمهورية كأعلى سلطة في البلد آذنة لضرورة تغير أنموذج معين من عقليات الاتكال والانسلاخ من الواقع الاجتماعي، فإن طبيعة التصدي لتلك الظاهرة لا تتم بمتغير الدولة ومؤسساتها القانونية والتي تحتكر قوة الفعل والردع فقط، وإنما بإشراك المختصين في علم الاجتماع من أجل عقلنة التغيرات، وفهمها اجتماعيا سبيلا للتغلب عليها خدمة للتنمية الاجتماعية.

تصفح أيضا...