مقال محمذن باب ولد اتفاغ الذي يرد فيه على مقال " ولد امخيطير " ـ أرشيف

أحد, 12/11/2017 - 11:47

لا... لا عنصرية ولا محاباة في مواقف النبي ـ نشر هذا المقال يوم 11 ـ 01ـ 2014

قرأت بحسرة وإشفاق مقال الشاب محمد الشيخ ولد مخيطير، الذي ردد فيه بعضا من شبهات كثيرة يتداولها اليوم العديد من شبابنا على صفحات التواصل الاجتماعي في الإنترنت.

وأعتقد أن من حق هؤلاء الشباب على من أوتي حظا من علم وعقل أن يناقشهم بهدوء ورزانة ويجادلهم بالتي هي أحسن ويستعرض معهم الحقائق التاريخية بموضوعية علَ الله أن ينتشلهم من حيرتهم ويهديهم إلى سواء السبيل.

وفي انتظار أن ينبري من أهل العلم والعقل من يسلك هذا المسلك، فسأحاول من باب التطفل الرد على الشبهات الثلاث التي أثارها المقال.

 

أولا: فداء أبي العاص بن الربيع

 

رأى الكاتب في قصة فداء صهر الرسول عليه الصلاة والسلام أبي العاص بن الربيع بعد أسره يوم بدر نوعا من المحاباة والأنانية. وخلاصة القصة أن زينب كبرى بنات الرسول بعثت من مكة بقلادة لفداء زوجها.

وكانت لهذه القلادة قيمة رمزية كبيرة، فقد أهدتها خديجة بنت خويلد رضي الله عنها لابنتها البكر عندما زفتها لأبي العاص. ولما رأى الرسول القلادة عرفها ورق لها فقال لأصحابه: "إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها مالها فافعلوا إن شئتم. فقالوا : نعم يا رسول الله".

وفي هذه الحادثة حكم عديدة تبعدها من المحاباة والأنانية وتدرجها في صميم العدل والإنصاف، ومن أبرز هذه الحكم:

ـ أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يتخذ القرار بانفراد بل عرضه على أصحابه وترك لهم حرية الرفض أو القبول. ولذلك لا تحدثنا كتب السير والتاريخ عن أي لمز للمنافقين في هذا القرار.

ـ أن المشاعر التي أذكتها قلادة خديجة في نفس الرسول يختلط فيها الوفاء للزوجة بالحنان على البنت والعطف على الصهر، وهي مشاعر نبيلة تنم عن خلق عظيم ولا وجه لمقارنتها بنوازع الغرائز الهابطة كالمحاباة والأنانية.

ـ كانت خديجة رضي الله عنها أول من آمن بالرسول وآزره ونصره وقد بذلت مالها وجاهها وراحتها من أجل التمكين للإسلام. ولهذا لا يستساغ أن يقابل المسلمون تضحياتها في أول نصر يحرزونه بأخذ قلادة أهدتها لفلذة كبدها فدية لصهرها وابن أختها.

وعلى كل حال فرد القلادة لا يفي بشيء من حق خديجة على المسلمين، والله وحده قادر على مجازاتها ولذلك بشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب.

ـ عندما ضغطت قريش، قبل الهجرة، على أزواج بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم كي يطلقوهن، رضخ عتبة وعتيبة نجلا ابي لهب فطلقا رقية وأم كلثوم، لكن أبا العاص بن الربيع رفض مفارقة زينب غير مكترث بسطوة قريش وجبروتها وغير عابئ بإغرائها له بتزويجه بأي فتاة يختارها من جميلات القبيلة.

وصب ذلك الموقف الأبي الوفي في اتجاه نصرة الإسلام وخذلان الكفر رغم شرك صاحبه. ولهذا فمكارم الأخلاق تقتضي، وقد وقع ابن الربيع في الأسر يوم بدر، أن يغتنم المسلمون أول فرصة تلوح ليردوا له جميله.

ـ كان من بين أسرى بدر عم النبي ساقي الحجيج العباس بن عبد المطلب وابنا عميه عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث.

وقد كان عليه الصلاة والسلام يحب العباس كثيرا ولذلك جافاه النوم أول ليلة لعمه في الأسر.

ولما سُئِل عن سبب أرقه أجاب: سمعت أنين العباس في وثاقه. وعندها أسرع أحد الصحابة فأرخى وثاق العباس. فلما علم عليه الصلاة والسلام بالأمر قال لصاحبه: اذهب فافعل ذلك بالأسرى جميعا.

فلو كان عليه الصلاة والسلام يحابي ذويه لما عامل أقاربه الأعزاء معاملة سائر الأسرى.

 

ثانيا: مواجهة يهود بني قريظة بالقوة والعفو عن كفار قريش يوم الفتح

 

رأى الكاتب أن قتل الرسول عليه الصلاة والسلام لمقاتلة بني قريظة بعد غزوة الأحزاب وعفوه عن كفار قريش يوم فتح مكة هو نوع من الكيل بمكيالين وضرب من محاباة الأهل والعشيرة. والحقيقة أن لكل من الواقعتين سياقها الأمني والسياسي الخاص.

فقد أبرم رسول الله عليه الصلاة والسلام عهد أمان مع بني قريظة لتحصين الجبهة الداخلية في المدينة وجوارها، لكنهم غدروا به وأقنعوا قريشا بغزو المدينة واعدين إياهم بأن يكونوا لهم ظهيرا ونجحوا في تأليب قبائل عديدة وكبيرة التحقت بقريش فيما عرف بغزوة الأحزاب.

وقد حصن المسلمون المدينة بالخندق الذي حفروه على طول مدخلها الشمالي، لكن الأحزاب حاصرتهم قرابة شهر أنهكتهم فيه أيما إنهاك قبل أن يسلط الله على المشركين ريحا أدخل عصفها وبردها القارس الرهبة في قلوبهم واضطرهم إلى الفرار.

كان غدر بني قريظة بمثابة خيانة عظمى في ظرف يعاني فيه المسلمون ضعفا سياسيا وعسكريا كبيرا ولذلك كان من اللازم تلقينهم درسا رادعا لهم ولغيرهم.

وقد ذهبت الدعاية اليهودية وخاصة في هذا العصر إلى أن عقاب الرسول لبني قريظة شكل واحدة من أفظع المجازر البشرية في التاريخ. وهي تستند فيما ذهبت إليه إلى معلومة تناقلها بعض المؤرخين اليهود وجاءت في بعض كتب السيرة النبوية مفادها أن مئات من رجال بني قريظة قتلوا في تلك الحادثة.

لكن بعض علماء السيرة القدامى والمحدثين رأوا أن العدد مبالغ فيه كثيرا ملاحظين أن صحيحي مسلم والبخاري لم يرد فيهما على الإطلاق ذكر لعدد قتلى بني قريظة. وذهب هؤلاء إلى أن من قتلوا هم كبراء القوم وكانوا بمثابة مجرمي حرب.

أما في فتح مكة فكان الإسلام في عنفوان قوته العسكرية والسياسية يدخله الناس أفواجا، وكانت قريش في حالة تفكك وضعف وانهيار أفضى بها إلى استسلام شامل.

وكانت الحصافة السياسية تقتضي إصدار عفو شامل عن قريش وهو ما أعلنه عليه الصلاة والسلام بنبل وأريحية في ندائه الخالد لقريش: "اذهبوا فأنتم الطلقاء".

ومع ذلك استثني النبي من هذا العفو عددا من ألد أعداء الإسلام كانوا بمثابة مجرمي حرب ـ ككبراء بني قريظة ـ وأمر بقتلهم ولو وجدوا متعلقين بأستار الكعبة.

 

ثالثا: إكرام هند بنت عتبة والصدود عن وحشي

 

زعم الكاتب أن الرسول عليه الصلاة والسلام وقف موقفا عنصريا تمييزيا عند ما أكرم هندا بنت عتبة وصدَ عن وحشي بعد إسلامهما لأن هندا سيدة قرشية نبيلة ووحشي عبد حبشي وضيع رغم أن هندا هي من أجرت وحشيا لقتل سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب يوم أحد وهي أيضا من مثّـل بعم النبي.

ولم يرد في كتب السير أنه عليه الصلاة والسلام عامل هندا معاملة تفضيلية بعد إسلامها، لكن قوة شخصية بنت عتبة وفصاحتها هي التي خلدت حضورها البارز في الأبطح حيث بايعت النبي رفقة مجموعة من النساء.

ومن بين تعليقاتها الخالدة في ذلك اليوم قولها لرسول الله بعد أن كشفت عن نقابها وقدمت نفسها: "والله ما كان على الأرض أهل خباء أحبّ إليّ من أن يذلّوا من خبائك، ولقد أصبحت وما على الأرض أهل خباء أحبّ إليّ من أن يَعزّوا من خبائك".

أما وحشي فكان يدرك تماما مكانة حمزة العظيمة عند رسول الله والمسلمين كافة ولذلك لما فتحت مكة أيقن أن الموت بات يداهمه ففر إلى الطائف، فلما قرر أهل الطائف اعتناق الإسلام فكر في اللجوء إلى الشام أو اليمن...

يقول وحشي: "إني لفي ذلك من همي إذ قال رجل ‏:‏ ويحك‏!‏ إنه والله ما يقتل أحداً من الناس دخل في دينه‏.‏

فلما قال لي ذلك خرجت حتى قدمت على رسول الله المدينة، فلم يرعه إلا وأنا قائم على رأسه، أشهد شهادة الحق‏.‏

فلما رآني قال‏:‏ وحشي؟ قلت‏:‏ نعم‏. قال‏:‏ اقعد فحدثني كيف قتلت حمزة‏.‏ فحدثته...‏ فلما فرغت من حديثي قال‏:‏ ويحك‏!‏ غيب وجهك عني، فلا أراك‏.‏ فكنت أتنكب رسول الله حيث كان، فلم يرني حتى قبضه الله‏".

ليس في الأمر إذن أدنى تمييز أو عنصرية وإنما هو الوفاء والعدل في أجلى صورهما. فالوفاء لسيد الشهداء أسد الله وأسد رسوله هو ما يفسر الرغبة في تغييب وجه قاتله.

والعدل يقتضي عدم سلب وحشي أيا من حقوقه إذ الإسلام يجب ما قبله، وفعلا تمتع وحشي بكامل حقوقه بما فيها أسماها أي الجندية في جيش المسلمين إلى أن انتهى به الأمر بأن حظي بشرف قتل مسيلمة الكذاب.

إن مثل هذه الشبهات التي وقع الشاب ولد امخيطير ـ هداه الله وتاب عليه ـ فريسة لها تتأتى أساسا من أمرين ينبغي التنبه لهما جيدا. أما الأمر الأول فهو قراءة أحداث السيرة قراءة انتقائية تعزلها عن سياقاتها التاريخية مما يشوش على المتلقي العادي فهمها وإدراك الحكم الكامنة وراءها.

وأما الأمر الثاني فهو أن الكثير من مظاهر الظلم والاضطهاد في المجتمع ألبسها بعض الفقهاء، مع مر الوقت، لبوسا دينيا لأسباب مختلفة يختلط فيها القصور في فهم النصوص الشرعية وإدراك حيثيات الواقع بالأهواء والمصالح الشخصية.

ولا شك أن إسباغ الشرعية الدينية على ممارسات منافية تماما لجوهر الإسلام كالعنصرية أمر منفر يدفع غير المطلعين اطلاعا دقيقا على حقيقة الشرع إلى تصديق ما يثار من شبهات حول الإسلام.

تصفح أيضا...