الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
دأب الكفار والمشركون على سبّ الأنبياء والمرسَلين ومعاداتهم ووصْفهم بالسحر والكهانة والجنون والكذب والافتراء: (وكذلك جعلنا لكل نبىٍّ عدوّا من المجرمين).
ولم يقف سيل الطعن والتجريح عند الأنبياء المكْرَمين صفوةِ الله من خلقه، بل امتدّ إلى أصحابهم والذين اتبعوهم بإحسان، كما قال تعلى: (ولتَسْمَعُنّ من الذين أوتوا الكتاب مِن قبلِكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا).
فمن البدَهىّ أنه لن يُسَبَّ الأنبياء، ويبقى ورَثتُهم بمعزِل من الأذى، فللكفار والمشركين أيضا ورثتُهم من المرجِفين والمنافقين. كما لن تسْلَم دعوةُ الرسل وحقيقةُ الدين الخالص الذى جاءوا به من هجوم الفريقيْن وبغْيِهم وطغيانهم ومكْرهم: (ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين).
ولقد كثر فى الآونة الأخيرة تطاولُ الجهال والمجرمين على الدين الإسلامىّ ومقدساته، إلى حدّ الزندقة والإلحاد. وكان من أشنع ذلك وأبشعه ما كتبه المثبور ولد امخيطير من سبّ النبىّ صلى الله عليه وسلم، ونسبته إلى الجور والظلم، مما يُعدّ كفرا صريحا وردة مكشوفة.
وكنت قد سطَرت فى ذلك فُتيا مطبوعة، وسَمتُها برفع الحسام على من سبّ خير الأنام، بينت فيها بالأدلة الدامغة، كتابا، وسنة، وإجماعا، كفر السابّ ووجوبَ قتله، وجلبت فيها من النقول الشافية الكافية ما يدلّ على أن توبته النَّصوح ـ لو تاب ـ لا تدرأ عنه حد القتل فى الدنيا، ولكن تنفعه فى الآخرة، وأنه لا يحق للأمة التنازلُ عن حق نبيها صلى الله عليه وسلم، وأن المسوّغين لمقالة السابّ هم بمثابته... إلى غير ذلك من المسائل والأحكام المزبورة فى تلك الرسالة.
وقد وزعتها يومئذ على أوسع نطاق أمكننى، إنكارا للمنكر، وإبراء للذمة.
وسأقتطف منها قطوفا يسيرة فى هذا المقام محتذيا سبيل الأمَّة الناصحة التى أنذرت قومها أصحابَ السبت، وردّت على أمّتهم الأخرى التى آيَسَتها من ارْعوائهم عن غيّهم وتحايُلهم، فكان شعارهم أن (قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون).
***
وإليْكُمُوه:
"وإذْ تناهَى إلى سمعنا فى هذه الأيام ما يقِفّ له الشَّعر من طوامَّ كتبها أحد الهَلكى فى مدينة انواذيبو على شاكلة ما ظهر فى السنوات الأخيرة على أيدى إخوانه من الكفار الأصليين من الاستهزاء برسولنا صلى الله عليه وسلم عن طريق الرسوم الساخرة وجب بيان حكم الله عز وجل فى هذا المثبور ومن لفّ لِفّه، إحقاقا للحق، وإبراء للذمة.
وقد وُجد للأسف فى بلاد المسلمين من يهوّن الأمر من المتعالمين أو "المتعاونين" مع الكفار ! ولو كان ذلك يؤتَى بغير اسم الإسلام لكان الخطب فيه أسهل! والله المستعان .
وستكون هذه العجالة - بإذن الله - شجاً فى حلق كل مقبوح يهوّن من الطعن فى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويفترى عليه الفِرَى المكشوفة بأنّ دأبَه العفوُ عن كل من هجاه وديْدنَه الصفحُ عن كل من آذاه .
كما أنها ستبيّن بكل وضوح - إن شاء الله تعلى - الحكم الشرعىّ فى كل من ينتهك حُرمة النبىّ صلى الله عليه وسلم من "مسلم" أو كافر .
وتوصلا إلى هذه المقاصد تسعى هذه الرسالة إلى إثبات الأحكام الآتية :
الأول: ارتدادُ المسلم بسبّ النبىّ صلى الله عليه وسلم أو الاستهزاءِ به أو الاستخفافِ بحقه أو أذِيّتِه أو النيلِ منه أو التنقّصِ له فى الجِدّ والهزْل، ووجوبُ قتله بذلك دون استتابة.
الثانى: أن النبىّ صلى الله عليه وسلم كان يأمر بقتل من آذاه بالسبّ والهجاء وأنه كان يعفو أحيانا مراعاة لبعض المصالح أو الاعتبارات الظرفية ولأن الحق له إن شاء استوفاه وإن شاء تركه .
الثالث: أنه ليس للأمة التنازلُ عن حقه صلى الله عليه وسلم بعد لحوقه بالرفيق الأعلى فيجب على الحاكم المسلم تنفيذ حد الردة على السابّ فى هذه الحال.
الرابع: انتقاضُ عهد الذمّىّ وإهدارُ دمه إن اقترف شيئا من ذلك، وأنه إذا كان القتل هو الحكمَ فى المسلم والذمىّ والمعاهد فقتلُ مَن سَبَّه من الكفار الحربيين والمشركين أوْلى وأحرى.
الخامس: أن المسلم إذا سبّ النبىّ صلى الله عليه وسلم فارتد بذلك ثم تاب لم تنفعه توبته فى الدنيا بل يقام عليه حد الردة ثم تنفعه توبته فى الآخرة.
وسبيل إثبات ما أدّعيه أن أدلل عليه بآىٍ من القرآن الكريم وجُمَل من السنن الصحاح والحسان وطائفة من الآثار التى احتجّ بها بعض سلفنا الصالح ثم أنقلَ الإجماعَ القديمَ على جملة المدّعَى .
أما ما يذكره بعض العلماء من الأحاديث والآثار فى النقول التى نوردها عنهم تفسيرا لآية أو شرحا لحديث فالعُهدة فى ذلك عليهم وكذا ما يوردونه تعليقا على قصة أو حدَث.
وبالجملة، فلم أعتمد إلا الكتاب والسنة والإجماع القديم فى مسائل هذا الباب ولم أطوِّل بنقل كلام الأئمة والعلماء والفقهاء من مختلِف المذاهب فهو كثير جدّا لا يحتمله هذا المختصر.
وما أوردته من تفسير آية أو شرح حديث عن بعض العلماء فهو من الواضح البيّن الذى لا يكاد يُختلف فيه بينهم وكذا جملة الأحكام التى اشتملت عليها هذه الرسالة. فلا يقولنّ متَقوِّ ل جاهل بحقيقة
الحال إنّى أكفرت فلانا أو أهدرت دم فلان أو إنى آثرت الشدّ ة وجانبت الرفق واللين. فالكتب بالباب.
وعقدت ثلاثة فصول قصيرة فى خواتيم هذه الرسالة جعلت عنوان الأول منها:
( فصل فى التمثيل لما يدخل فى السب من الألفاظ )، فجاء مشتملا على نماذجَ مما قرر العلماء أنه داخل فى باب السبّ والشتم والتنقص والإيذاء تمثيلا لا حصرا لتكون بين يدى القارئ فيحْذرها ويقيس عليها .
وأما الثانى فعنوانه: (فصل فى التحذير من نشر سبه عليه الصلاة والسلام وروايةِ الطعن فيه).
وأما الثالث فعنوانه : (فصل فى التحذير من تسويغ سبه أوالتهوين منه والدفاع عن مرتكبه).
وفى ذلك كله ما يثلج ـ إن شاء الله - قلوبَ الغُيُرِ على المَقام المنيف ويشرح صدور الصُّدُق فى كِلاَءة الجَناب الشريف".