بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة على سيدنا محمد خاتم النبيئين
وبعد،
فقد أقدم المسيء في مقاله السيء -الذي سرد وقائعه اعتمادا على التاريخ المسيحي- على سب النبي صلى الله عليه وسلم والقدح في عرضه بالمعايب التالية:
- نفي الرحمة عن النبي صلى الله عليه وسلم واتهامه بارتكاب عملية "إبادة" في حق أعدائه
- عدم احترام النبي صلى الله عليه وسلم للعهود وحقوق المعاهدين -في زعم المسيء-
- اتهام النبي صلى الله عليه وسلم بالمحاباة وتحكيم العواطف في مخالفة أحكام الله تعالى وبالمحسوبية واستغلال السلطة لصالح "العمومة" والعشيرة على حساب الضعفاء في زعمه مقارنا في ذلك بين واقعة غزوة بني قريظة وخيبر ووادي القرى من جهة مع واقعة فتح مكة، ومقارنا بين ما حصل في حق أبي العاص بن الربيع وخالد بن الوليد وهند بنت عتبة من جهة وما حصل مع وحشي بن حرب بعد قتله حمزة من جهة أخرى
وهذا هو أسوأ وصف يمكن أن يطلق على قائد عادي من أفراد أمته صلى الله عليه وسلم.
وقد كتب المسيء مقاله بلغة في غاية الجفاء والبذاء والوقاحة وكأنه يتحدث عن أحد قادة الحرب النازية. وبالرجوع إلى المراجع اللغوية والشرعية المختصة يتبين أن ما صدر من هذا الشخص سب صريح لأفضل الأنبياء، وليس مجرد استهزاء بنبي.
فالاستهزاء إيذاء على وجه العبث والهزل والتخالع لأجل الضحك؛ كما هو واضح من النصوص التالية:
قال أبو هلال العسكري في الفروق اللغوية (ص: 255): والهزء يجْرِي مجْرى الْعَبَث وَلِهَذَا جَازَ هزئت مثل عبثت. هـ
وقال ضياء الدين بن الأثير في المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر (3/ 160)
وكذلك جاء قوله تعالى: {ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون} 3 فذكر الاستهزاء الذي هو في معنى الخوض واللعب، وقابل به الخوض واللعب، ولو ذكره على حد المماثلة والمساواة لقال: أفي الله وآياته ورسوله كنتم تخوضون وتلعبون. وقد فسرت المعاجم اللغوية التهكم بالاستهزاء. (القاموس المحيط ولسان العرب "هكم")
وفي خزانة الأدب (1/215) عرَّف ابن حجة الحموي التهكم بقوله : هو عبارة عن الإتيان بلفظ البشارة في موضع الإنذار، والوعد في مكان الوعيد، والمدح في معرض الاستهزاء، فشاهد البشارة في موضع الإنذار قوله تعالى: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}
وشاهد المدح في معرض الاستهزاء بلفظ المدح، قوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} قال الزمخشري: إن في تأويل قوله تعالى له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله تهكمًا، فإن المعقبات هم الحرس من حول السلطان يحفظونه، على زعمه، من أمر الله على سبيل التهكم، فإنهم لا يحفظونه من أمره في الحقيقة إذا جاء، والله أعلم. ومنه قوله تعالى: {قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فقوله: إيمانكم تهكم.
وشاهد المدح في موضع الاستهزاء، من النظم، قول ابن الرومي:
فيا له من عمل صالح يرفعه الله إلى أسفل.هـ
وقد بين علماء التفسير حقيقة ما نسب لله في القرآن من الاستهزاء واختلفوا في وجه نسبته إليه مع ما يشعر به مما ذكرنا.
وفي الكليات لأبي البقاء الكفوي الحنفي (ص: 303) : التهكم: هُوَ مَا كَانَ ظَاهره جدا وباطنه هزلا.هـ
وقال الشريف المرتضى في الأمالي (1/ 422) في خبر هاروت وماروت : ومعنى قولهما: إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ يكون على طريق الاستهزاء والتماجن والتخالع، كما يقول الماجن من الناس إذا فعل قبيحا أو قال باطلا: هذا فعل من لا يفلح، وقول من لا ينجب، والله ما حصلت إلا على الخسران؛ وليس ذلك منه على سبيل النّصح للناس وتحذيرهم من مثل فعله، بل على وجه المجون والتهالك.
وقال في موضع آخر(2/ 149) في سياق الأجوبة عن قوله تعالى {الله يستهزئ بهم} فإن قيل: فعلى هذا الجواب، ما الفعل الّذي هو الاستهزاء؟
قلنا: فى ترداده لهم من باب إلى آخر على سبيل التعذيب معنى الاستهزاء؛ من حيث كان إظهارا لما المراد بخلافه؛ وإن لم يكن فيه من معنى الاستهزاء ما يقتضي قبحه من اللهو والعبث وما جرى مجرى ذلك.هـ
ولزيادة الإيضاح نعرض نماذج مما صدر من المستهزئين الذين كفى الله نبيه شرهم بعد دعائه عليهم.
قال علي بن إبراهيم بن أحمد الحلبي في سيرته ( إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون (1/ 445) : فمما استهزئ به على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حدث به بعضهم «أن أبا جهل بن هشام ابتاع من شخص يقال له الإراشي بكسر الهمزة نسبة إلى إراشة بطن من خثعم أجمالا فمطله بأثمانها، فدلته قريش على النبي صلى الله عليه وسلم لينصفه من أبي جهل استهزاء برسول الله صلى الله عليه وسلم، لعلمهم بأنه لا قدرة له على أبي جهل.
ومن استهزاء أبي جهل بالنبي صلى الله عليه وسلم «أنه في بعض الأوقات سار خلف النبي صلى الله عليه وسلم يخلج بأنفه وفمه يسخر به، فاطلع عليه صلى الله عليه وسلم، فقال له: كن كذلك، فكان كذلك إلى أن مات» هــ
وقال الحلبي بعد ذلك : (1/ 450) في عد المستهزئين : الأسود بن يغوث، ، كان إذا رأى المسلمين قال لأصحابه استهزاء بالصحابة: قد جاءكم ملوك الأرض الذين يرثون كسرى وقيصر: أي لأن الصحابة كانوا متقشفين، ثيابهم رثة، وعيشهم خشن، ويقول للنبي صلى الله عليه وسلم: أما كلمت اليوم من السماء يا محمد، وما أشبه هذا القول.هـ
أما السب فهو: الشتم كما في المعاجم اللغوية (القاموس المحيط وصحاح الجوهري ولسان العرب "س ب ب"
قال ابن دريد في جمهرة اللغة (1/ 69) :وأصل السب القطع ثم صار السب شتما لأن السب خرق الأعراض.هـ
وقال الزمخشري في الفائق في غريب الحديث (3/ 135) معلقا على قول أبي ذر رضي الله عنه :"إن قارضت الناس قارضوك وإن تركتهم لم يتركوك وإن هربت منهم أدركوك. قال الرجل: كيف أصنع قال: أقرض من عرضك ليوم فقرك. أي من يتفقد أحوال الناس ويتعرفها عدم الرضا." : المقارضة: مفاعلة من القرض وهو القطع وضعت موضع المشاتمة لما في الشتم من قطع الأعراض وتمزيقها.هـ
وقال محمد بن أبي الفتح بن أبي الفضل البعلي في المطلع على ألفاظ المقنع (187) : وقال أبو العباس اللبلي في شرح الفصيح: الشتم: رمي أعراض الناس بالمعايب، وثلبهم، وذكرهم بقبيح القول، حضرًا أو غيبًا، عن ابن درستويه، وقال المطرز: الشتم عند العرب: الكلام القبيح سوى القذف.هـ
فمن قرأ كلام هؤلاء الأئمة تبين له دون أدنى تأمل أن الاستهزاء يدور على العبث والخلاعة والهزل . والسب يدور على القدح في الأعراض غيبا ومشهدا.
وبتنزيل كلامهم على كلام هذا المسيء -وإن كنا لا نبرئه من سوء- يتبين للقارئ أن كلامه سب صريح لا مجرد استهزاء ؛ فإن كلامه يدور على الجد بالقدح الصريح في العدالة وفي الإنسانية مع تتبع الأحداث والمقارنة بين الوقائع المؤرخة.
وقد نسبت له المدافعة عنه قوله : "أن قصده تبيان الفهم الناقص عند البعض وأنه أراد التفرقة بين الدين والتدين" فأين خاصة الاستهزاء -وهي العبث والهزل - من هذا القصد المزعوم؟!
وكيف تكون محاولة "تبيين الفهم الناقص والتفريق بين المسائل المتقاربة في المادة" -مع محاولة الدقة في العرض والتاريخ- مجرد عبث وهزل وخلاعة حتى تسمى مجرد استهزاء؟!
وإذا تقرر -حسب النصوص المذكورة- أن جريمة هذا المسيء ليست مجرد استهزاء فإن النصوص المعمول بها في هذا البلد تأمر بالرجوع فيها إلى الشريعة الإسلامية حسب المادة 499.
وعقوبة ساب الأنبياء القتل دون استتابة في مشهور المذهب المالكي والحنبلي كما هو معلوم، قال القاضي عياض في الشفا (2/254): اعلم أن مشهور مذهب مالك وأصحابه وقول السلف وجمهور العلماء قتله -يعني الساب- حدا لا كفرا إن أظهر التوبة منه ولهذا لا تقبل عندهم توبته ولا تنفعه استقالته ولا فيأته.هـ
وبه قال أبوبكر الفارسي والشيخ أبوبكر القفال من الشافعية ورجحه تقي الدين السبكي من الشافعية أيضا في كتابه السيف المسلول (ص133) واستدل له بالكتاب والسنة والإجماع.
ولا يعذر الساب بتهور ولا سكر ولا التفات لسان؛ قال القاضي عياض في الشفا: الشفا (2/ 231) في بيان أحكام أوجه السب: الوجه الثاني لا حق به في البيان والجلاء وهو أن يكون القائل لما قال في جهته صلى الله عليه وسلم غير قاصد للسب والإزراء ولا معتقد له ولكنه تكلم في جهته صلى الله عليه وسلم بكلمة الكفر من سبه أو تكذيبه أو إضافة ما لا يجوز عليه أو نفي ما يجب له مما هو في حقه صلى الله عليه وسلم نقيصة مثل أن ينسب إليه إتيان كبيرة أو مداهنة في تبليغ الرسالة أو في حكم بين الناس أو يغض من مرتبته أو شرف نسبه أو وفور علمه أو زهده أو يكذب بما اشتهر من أمور أخبر بها صلى الله عليه وسلم وتواتر الخبر بها عن قصد لرد خبره أو يأتي بسفه من القول أو قبيح من الكلام ونوع من السب في جهته وإن ظهر بدليل حاله أنه لم يعتمد ذمه ولم يقصد سبه إما لجهالة حملته على ما قاله أو لضجر أو سكر أضطره إليه أو قلة مراقبة وضبط للسانه وعجرفة وتهور في كلامه فحكم هذا الوجه حكم الوجه الأول القتل دون تلعثم إذ لا يعذر أحد في الكفر بالجهالة ولا بدعوى زلل اللسان.هـ
قال السبكي في السيف المسلول في (ص170) بعد ما نقل عن القاضي عياض موافقة الشافعي للإمام مالك في القتل من غير استتابة ما نصه : فهذا الذي قاله الفارسي واستحسنه الإمام من عدم سقوطه بالتوبة وحكاية الإجماع على ذلك قد يشهد لما اقتضاه كلام عياض من عد الشافعي مع القائلين بعدم قبول التوبة.
ثم قال في (ص174) -بعدما نقل المعروف عن الشافعية والحنفية في المسألة- : وكلتا الطائفتين لم أرهم تكلموا في مسألة السب مستقلة، بل في ضمن نقض الذمي العهد، وكأن الحامل على ذلك أن المسلم لا يسب.هـ
ثم نبه (ص 180) على أن السب أقبح من الكفر الأصلي ومن الردة فإنه لا يتدين به ـــ أي بخلاف الكفر الأصلي والرجوع إليه ــ وفيه ازدراء بأنبياء الله تعالى ورسله وإلقاء للشبهة في القلوب الضعيفة فلذلك كانت جريمته أقبح الجرائم ولا تعرض عليه التوبة بخلاف الردة لأنه قد تكون للمرتد شبهة فتحل عنه والسب لا شبهة فيه. هـ
وفي كتاب ابن تيمية (الصارم المسلول على شاتم الرسول) في وجه قتل المرأة السابة دون المقاتلة (ص: 285): أن مفسدة السب لا تزول إلا بالقتل لأنها متى استبقيت طمعت هي وغيرها في السب الذي هو من أعظم الفساد في الأرض كقاطع الطريق سواء بخلاف المرأة المقاتلة إذا أسرت فإن مفسدة مقاتلتها قد زالت بأسرها.هـ
وخلص السبكي في كتابه السيف المسلول (ص385) في علة قتل الساب إلى قوله: ويتحرر في التعليل في حق النبي صلى الله عليه وسلم أمور:
أحدها: دلالة السب على زندقة الساب،
والثاني: الطعن في الدين،
والثالث: كونه حق آدمي
والرابع: كون طباع الكفار تدعو إليه، فيشرع له زاجر وهو القتل، كالزنا، ولا يسقط بالإسلام.هـ
والمعنى الأول: يختص بالمسلم، والرابع يختص بالكافر في حق النبي صلى الله عليه وسلم دون حق الله تعالى، والثاني موجود فيهما في الموضعين، والثالث موجود فيهما في حق النبي صلى الله عليه وسلم دون حق الله تعالى.
والخلاصة أن هذا المسيء ساب للنبي صلى الله عليه وسلم بصريح القدح الذي لا يحتمل فيمن هو دونه، وليست جريمته مجرد استهزاء ، كما تبين من التعريفات المنقولة عن علماء اللغة والوقائع المنقولة عن حفاظ السيرة النبوية.
وأن قتل الساب من غير استتابة قول جمهور علماء المسلمين وهو الراجح نقلا وعقلا بمقتضى الأدلة السابقة وهو الرادع الحقيقي للخطر الذي يهدد هذا البلد المسلم جراء هذه الحادثة التي لم يشهد مثلها ولا ما يقاربها منذ قيامه على هذه الأرض.
ولو فرضنا أن قتل الساب من غير استتابة مما انفرد به المذهب المالكي الذي هو المذهب الذين يدان به الله تبارك وتعالى في الغرب الإسلامي منذ قرون ولا أثر فيه لغيره من المذاهب ، بل ما سواه من المذاهب مثل عنقا مغرب كما قال العلامة سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم في مقدمة مراقي السعود.
فإن العدول عن هذا المذهب المعتمد لمجرد إيجاد ملاذ آمن لعدو النبي صلى الله عليه وسلم الذي أعلن بسبه على صفحات المواقع الألكترونية لعمل مُريب.
هذا مع أن قبول توبة هذا الساب يفتح الباب على مصراعيه لمن أراد أن يجاهر بسب النبي صلى الله عليه وسلم وبالطعن في جميع المقدسات الإسلامية حيث شاء ومتى شاء ثم يتظاهر بالتوبة ليسلم من المضايقة القانونية، وتكون المحكمة بذلك مسؤولة أمام الله في تصرفها في حق حرماته وخصما للنبي صلى الله عليه وسلم بمظاهرة عدوه وإعانته عليه.