
كانت عبارات رئيس الجمهورية في وادان، منصفة بالقسط والعدل، واضحة كالشمس رأد الضحى، وجلية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
فأكثر ما يحتاجه بلدنا اليوم هو بناء دولة القانون والمواطنية، وأول أشراط ذلك البناء تنقية الموروث الثقافي الذي أُسس في قسط كبير منه على قيم الإسلام والتسامح، لكنه شِيب في جوانب منه بشوائب مجتمعات القبيلة والفيئة، وما يلازمها من حمية الجاهلية الأولى، وثقافة الطبقية البغيضة، المؤَسَسَة على الأنساب والأحساب أحيانا، وعلى الصنعة والحرفة أحيانا أخرى.
إنها المرة الأولى التي يعلن فيها المسؤول الأول في هذا البلد عن رؤية منصفة كهذه، قوامها، أن الدول لا تقوم على مبدأ "حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا"، بل على المبدأ النبوي: كلكم لآدم وآدم من تراب، وأكركم عند الله أتقاكم، وعلى قاعدة الوطن للجميع سواء بسواء.
وتلك لعمري شجاعة أدبية وثقافية افتقدناها ردحا من الزمن، وطيلة ما انقضى من عمر الدولة الحديثة في هذا البلد، فأول طريق العلاج سلامة التشخيص ووضع الأصبع على موضع الداء، وأول أشراط الإصلاح الاعتراف بمكامن الخلل وتجاوزها، وأي خلل في مجتمع دولة القانون والمواطنة، أنكى وأبشع من تفاوت طبقي ظالم جائر لا يتكئ على ركن من الدين ولا سند من القانون، نشأ ونما في أمم وأجيال قد خلت لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت، ولم يعد اليوم من مبرر معقول أو مسوغ مقبول لبقائه أو إقراره.
لقد اختار رئيس الجمهورية اللحظة المناسبة والمكان المواتي ليقولها بواحا جهارا دون مواربة أو تورية، في يوم مشهود مجموع له الناس، وفي واحدة من أعرق حواضر البلد التاريخية والتراثية، فأفصح بجلاء أن لا مكان لتلك الصفحة السوداء في سجل تاريخ نعتز به، وتراث نجله اليوم ونفخر به.
بل كان الانصاف أكبر والقسط أعدل، حين قال رئيس الجمهورية، إن هذه الفئات التي تعرضت للظلم وللنظرة السلبية تاريخيا، كان الأجدر ـ حسب ميزان القياس السليم ـ أن ترفع إلى قمة الهرم الاجتماعي، فهي في طليعة بناة الحضارة والعمران وهي عماد المدنية والابتكار والإنتاج.
ويصر رئيس الجمهورية في خطابه على التحلي بالشجاعة الأدبية والثقافية في باقي فقرات الخطاب، حين يواجه الجميع بحقيقة دامغة قاطعة لا ريب فيها ـ قد آن الأوان لوضع حد لها ـ ألا وهي تصاعد النفس القبلي المقيت وعودته إلى الواجهة مؤخرا، وما ينجر عنه من تصادم مع مقتضيات دولة القانون المعاصرة.
اليوم بعد خطاب وادان يبتلع المتطرفون ألسنة حدادا سلقوا الناس بها، وألبسوا الحق بالباطل ـ لمن شاء منهم أن يستقيم ـ بعد أن وضع رئيس الجمهورية حدا لعناوين طالما ما امتطوها، دعوة لتفتيت المجتمع وطعنا في خاصرة لحمته الوطنية.
فكانت شجاعة الاعتراف بالحقيقة والدعوة لنبذ المنبوذ شرعا ورفض المرفوض قانونا، مقرونة بالتأكيد على أن الدولة ستظل حامية للوحدة الوطنية، وتحفظ كرامة وحرية جميع المواطنين بقوة القانون وأيا تكن التكلفة، كما أنها لن ترتب حقا أو واجبا على أي انتماء إلا الانتماء الوطني.
هذه بعض من جوانب حقيقة خطاب وادان اليوم، تلك الحقيقة التي لم نألف الاعتراف بها، بل درجنا كما كان سادتنا وكبراؤنا سلفا على التنكر لها، ودفن رؤوسنا في رمال نفيها، والالتحاف بلحاف التنكر لها، فجاءت اليوم صريحة لا شية فيها على لسان رئيس الجمهورية.. تلك الحقيقة المُؤسِسَة لانطلاقة مجتمع حداثي، ودولة مواطنة، تركن إلى العدل وإلى الحق والحق فقط.. فماذا بعد الحق إلا الضلال.
محمد محمود ولد عبد الله