موريتانيا والبنك الدولي (٢) / سيد أحمد ولد ابوه _ خبير اقتصادي

أحد, 26/09/2021 - 17:53

عطفا على ما ورد في التدوينة السابقة وقبل تناول السياق الجديد لتعبئة الموارد المالية الضرورية للتنمية تجدر الإشارة إلى أن وضعنا الجديد لدى الوكالة الدولية للتنمية هو تماما كوضع نيجيريا أي لا ولوج للهبات ولا لشبه الهبات وهناك ولوج بشروط غير ميسرة بالكامل دون أن تكون شروط السوق المالي الدولي (المجحفة في بعض الأحيان) فنيجيريا بناتجها الداخلي الخام البالغ 450 مليار دولار مكنتها ديموغرافيتها الكبيرة ( 202 مليون نسمة ) وحالة الهشاشة الاقتصادية والاجتماعية فيها من مواصلة الولوج إلى شباك الوكالة الدولية للتنمية بشروط استثنائية رغم ولوجها بسبب ملاءتها المالية لشباك البنك الدولي لإعادة الإعمار والتنمية ( IBRD أقدم شبابيك البنك الدولي ). لا مسلمات ثابتة في أثر الديموغرافيا على مسار التنمية لكننا لم نوظف المزايا المرتبطة بعدد السكان القليل (سهولة التغطية بالخدمات الاجتماعية، السهولة نسبيا في امتصاص افواج العاطلين، القدرة نسبيا على التصدي للأزمات الاجتماعية الناتجة عن وضعيات اقتصادية ضاغطة وطارئة) وفي المقابل نواجه بشكل دائم مساوئ ديموغرافيا صغيرة (حين تتطور صناعاتنا التحويلية لن تكون بالأساس إلا تصديرية فحجم السوق الداخلي لا يزن شيئا لتحقيق مردودية للاستثمار وحين لا نطور تلك الصناعات فربما أن السبب من بين أمور أخرى هو عدم اليقين لدى المستثمرين بالنسبة لربحية استثماراتهم وبالتالي بقاء البلد تابعا لظروف وتقلبات وعشوائية أسواق الاستيراد وما لذلك من ضغط نزيفي على احتياطاتنا من العملة الصعبة).
موريتانيا بحاجة للبنك الدولي ولكن هنا ينبغي توضيح أمر مهم وهو أن حاجتنا الأساسية لهذه المؤسسة العريقة تكمن أساسا في الحصول على المساعدة الفنية والمواكبة لسياساتنا التنموية والبحث عن إقناعها بالتدخل كمُسهل لحشد التمويلات الضرورية لمشاريع هيكلية كالدور الذي تقوم به IFC (شباك القطاع الخاص بالبنك الدولي) في تغطية وحشد الممولين ضمن خطة تمويل مشروع ما ثم يمكنها أن تنسحب بعد نجاح العملية، سنصبح أيضا من الوالجين لعمليات جد فعالة عبر آلية (IBRD enclave) وهي عمليات IBRD "المعزولة أو المحدودة" والتي تقوم بها هذه المؤسسة في بلدان لا تزال ضمن مجال تدخل IDA وتُمكن غالبا من تمويل مشاريع في البنى التحتية وقطاع المعادن والطاقة ما عدى ذلك فإن حجم تدخلات هذه المؤسسة ضمن محفظة التمويلات الخارجية النشطة حاليا لا يتجاوز 10,5 % وهي نسبة تعادل حجم تدخل الاتحاد الأوربي (كشريك متعدد الأطراف) والدول الأوربية كشركاء ثنائيين حيث يتدخل الجسم الأوربي بصنفيه بنسبة 10 % وكل هذه النسب لا يمكن مقارنتها بتدخل المؤسسات والبلدان العربية والاسلامية (66 %).
أشير في خاتمة هذه النقطة أنه لا أثر للتصنيف الجديد لموريتانيا على مستوى IDA على المشاريع النافذة حاليا مع هذا الشريك كما أنه لا أثر له على المشاريع "الجهوية أو الإقليمية " بمصطلح البنك الدولي وهي المشاريع التي يستفيد منها ثلاثة بلدان أو أكثر في منطقة ما من مناطق تدخل البنك ويتعلق الأمر بثمانية مشاريع في محفظتنا الحالية مع هذه المؤسسة.
ماذا بعد الوضعية الجديدة ؟:
لا مناص لتوفير موارد مالية ضرورية لتمويل التنمية من إعادة صياغة مقاربة التمويل من أجل التنمية (financing for development ) في البلاد ويمر ذلك حتما عبر :
أولا: تفعيل تعبئة الادخار الوطني (الداخلي  أو المحلي بالأصح) وهنا حان الوقت أن نتوقف عن مخادعة أنفسنا في أمر مصيري يتوقف عليه مستقبل تنمية وازدهار البلاد فلا معنى أن يظل البنك المركزي وهو بنك البنوك عاجزا أو غير مستعد  لفرض هيبة المؤسسة النقدية الأولى بالبلد على مجموعة من خمسة عشر فردا هم مُلّاك المصارف رغم أن هؤلاء يقومون بدور مهم نسبيا ويدفعون للدولة أموالًا  هي واجباتهم الضريبية. نختار ويختار غيرنا مهنا في الحياة بحكم المؤهلات والحرية فنجد في بلدنا الحلاق والمحامي والشرطي وعامل البناء والمقاول والتاجر والمزارع والصحفي وغير ذلك من المهن الشريفة طالما أن مزاولتها تظل ضمن الإطار القانوني أو الترتيبي المنظم لها ولكن وهذه مفارقة كبرى  لا نجد في بلادنا مصرفيا واحدا، فالمصرفي مالك البنك هو في نفس الوقت التاجر المستورد للأرز والزيت والقمح والحليب المجفف والأسمدة وغير ذلك من السلع وهو أيضا المقاول المنافس على الصفقات العمومية وهو الفاعل في القطاع الزراعي وهو أيضا المُصدّر للسمك وهو أيضا الباعث العقاري وهو أيضا مستورد وموزع المحروقات. هذه الوضعية غير منطقية، غير مفهومة وغير مسؤولة وهي أحد أسرار بلاوي البلاد في مجال التنمية، ولستُ متأكدا أن لدى مواطنينا من ملاك المصارف مانع لوضع حد لها، إنها وضعية مخالفة لقوانين الطبيعة (الاقتصادية والمالية منها على الأقل)، إنها أيضا مخالفة لقانون المصارف وللوائح البنك المركزي. إنرفي استمرار هذه الوضعية مواصلة لتعطيل مسار تنمية الاقتصاد وهو تعطيل يعود لعقود ولكني أجد صعوبة في فهم عجز هذه المؤسسة عن وقف فوضى تكلفنا كل يوم تدهورا إقتصاديا واجتماعيا غير مسبوقين وحين لا يكون هناك ما يمكن تفسيره بعجز البنك المركزي عن التحرك في الاتجاه الصحيح فمعنى ذلك أن هناك عدم إدراك لضرورة التحرك وهذه في حد ذاتها كارثة. إن حجم الأموال خارج الدورة النقدية "المعلومة" والمقدسة عند أصحابها عبر آلية الاكتناز (Thésaurisation) لا يبشر بخير ولا بمصداقية لمنظومتنا المصرفية ذلك أن البنك المركزي اطلع فقط نسبيا وخلال عمليتي تبديل العملة سنة 2003 و 2018 على جزء من هذه المعلومات عن الكتلة النقدية المتداولة فما الذي يدفع الأفراد والمتعاملين الاقتصاديين إلى هذه الظاهرة الخطيرة على الادخار وبالتالي على منظومة القروض وعلى الاقتصاد؟ 
إن من لا يثق بإمكانية حصول مؤسسته أو مقاولته أو مشروعه على تمويل من المصارف لن يودع فوائضه بالمنظومة المصرفية ذلك أن البنوك هي بالأساس في أرضنا شبابيك مالية لتمويل الشركات العائلية لمالك المصرف وعلى الاقتصاد الموريتاني السلام. إن حل هذا المعضل لا يحتاج معجزة ولا ذكاء خارقا فالحلول موجودة بل هي اكلاسيكية ولكنها فعالة وينبغي أن تُركز مقاربة الحل على إلزام البنك المصرفي للمصارف بالفصل بين ملكية المصرف وتسييره (يمكن للمالك رئاسة مجلس الإدارة ولكن ينبغي أن يُحظر عليه تولي إدارة المصرف وأن يتم التأكد فعليا من ذلك)، للبنك المركزي أيضا العمل على إعادة تنظيم ورسملة المصارف بغرض دمج عدد منها ضمن مصرف واحد، فلا يحتاج بلد بحجم اقتصادنا وسوقنا أكثر من خمسة مصارف وحين تتوج هذه العملية بالنجاح سنكون أمام مصارف بعدد قليل وبملاءة مالية تجعلها قادرة على الاضطلاع بدورها كممول للاقتصاد (ينبغي أن يكون الحد الأدنى لرأس مال المصرف الناتج عن الاندماج بين أربعة مصارف مثلا يساوي 50 مليار أوقية قديمة أي حوالي 150 مليون دولار ) كما لا بد من تعزيز دور الإشراف للبنك المركزي للتأكد من تغطية الديون المعدومة أو المشكوك في تحصيلها بمخصصات كافية حتى لا يتسرب التسمم الناتج عن غياب ذلك إلى المنظومة المالية وحتى تظل بيانات المصارف ذات صدقية كما ينبغي إصلاح منظومة ضمان الودائع واعتماد المعايير الدولية المتعارف عليها في قطاع المصارف. البنك المركزي مؤسسة مستقلة ولكن استقلاليته، وهي أمر ضروري، لا تعني عزوفه عن القيام بمهامه بل تعني أن السلطة السياسية بالبلد تُحجم عن إسداء تعليمات أو توجيهات له بمراجعة نسبة الفائدة التوجيهية مثلا أو بتعديل نسبة الاحتياطي الاجباري للبنوك الوسيطة لديه أو بطبع نقود لا مقابل اقتصادي لها ولا تغطية لها من أصول خارجية (عملات صعبة أو ذهب) أو تغيير مكان إيداع احتياطاته من سبائك الذهب وكل المؤشرات تدل على أن شروط هذه الاستقلالية متوفرة ومحترمة.
ثانيا: صياغة استراتيجية لتعبئة الموارد لا يكون الدين الخارجي فيها إلا مكملا لجهد التعبئة الداخلية للموارد موضوع النقطة السابقة وهنا كنتُ أشرتُ سابقا في تدوينة على هذه الصفحة في يناير الماضي  إلى ضرورة الإجابة على جملة تساؤلات لنتبين بواعث وماهية لجوئنا إلى الاقتراض وهي أسئلة من قبيل متى ينبغي علينا اللجوء إلى الاستدانة؟  كم ينبغي علينا تعبئته من موارد عبر هذه الآلية؟ أي مشاريع سنوجه إليها الأغلفة المالية المقترضة؟ وماذا عن دراسات جدوائية هذه المشاريع؟ أي عائد منتظر للاستثمار في هذه المشاريع؟ علما أن الحد الأدنى لنجاعة الاقتراض برأي خبراء الدين هو أن نتمكن مقابل كل دولار اقتراض من خلق دولارين ونصف من الثروة وإلا كانت العملية خاسرة وتوريث لأعباء غير مبررة لأجيالنا القادمة؟ أي شروط ينبغي علينا اعتمادها في الاستدانة ؟ أي سقف ينبغي علينا تحديده للدين  الخارجي؟ أي سياسة لحشد التمويلات الخارجية؟ متى سيرى صندوقنا السيادي النور في أفق استغلال الغاز لتأمين موارد مستديمة عبر توظيف أمواله في أصول منتجة والاستفادة من ريع ذلك؟ متى سنتوقف عن تمييع المالية الاسلامية والتي كانت فشلا ذريعا في بلادنا بسبب عبثية المقاربة في الوقت الذي يشهد العالم كله حتى البلدان غير الاسلامية ازدهارا للتعاملات بآليات المالية الاسلامية لتوفيرها فرصا عالية الأمان من المضاربات ومرتفعة الربحية ؟ متى سنتمكن من خلق مناخ استثماري جاذب لرأس المال  الأجنبي وضامن للتشغيل ولخلق الثروة؟
ثالثا: إصلاح المنظومة الجبائية والتفكير في خفض المعدلات فالجباية الأكثر فعالية ليست تلك الأعلى نسب بل تلك المرتكزة على قاعدة أداء عريض وتتسع سنة بعد أخرى وأيضا بذل جهد لاقناع وحدات القطاع غير المصنف بالتعريف بنفسها وكذا تعميم وإلزام ماكينات الفوترة الآلية لوقف النزيف في مداخيل الدولة الجبائية.

الخلاصة:
إضافة لما سبق في نقاط التحليل أعلاه أخلص إلى ما يلي:
أولا: ينبغي إعطاء أهمية أكثر لتقييم CPIA من طرف طواقم وزارة الاقتصاد (عادة ليسوا مهتمين بهذا التقييم وذلك خطأ جسيم) فالعالم قرية واحدة وهذا التقييم معتمد من الأمم المتحدة والولايات المتحدة وليس صدفة إشادة نائبة وزير الخارجية الأمريكية قبل يومين بما تحقق في موريتانيا في مجال الشمول الاجتماعي ومحاربة التهميش (المجموعة الثالثة من مجموعات التقييم الواردة في التدوينة السابقة)
ثانيا: يمكننا تحقيق معدلات نمو اقتصادي من رقمين لو شئتم ولسنوات متتالية ولكن طالما أن ذلك النمو ليس شموليا وبالتالي ليس توزيعيا فستظل تصفعنا مشاهد أمهات في الريف يحملن قنينات فارغة ويقطعن أميال ليعدن بها ممتلئة بماء غالبا بجودة نسبية وذلك لسقاية أطفالهن، ستظل تصفعنا صور أطفال يفترشون الأرض في قاعات دروس بلا أبواب ولا نوافذ، نعم ستظل تصفعنا صور حوادث السير بسبب الطرق المهترئة والمقعرة وستظل تصفعنا صور توابيت جنائزنا العائدة من رحلة علاج فاشل خارج الوطن. لن يصدق المواطن تعهدات وخطط وسياسات حكوماته المتعاقبة حين لا يتحسن حاله المعيشي وهذا ما يجعل لزاما إحداث  تغيير فعلي في مقاربات التنمية المعتمدة. 
ثالثا: سيكون من المهم جدا مراجعة محفظة المشاريع المنفذة حاليا بتمويل من البنك الدولي ضمن محفظة متهالكة بقيمة 360 مليون دولار ( سبعة مشاريع وطنية وثمانية مشاريع إقليمية) والسعي إلى إقناع هذه الهيئة بالخروج نهائيًا من مقاربة المشاريع التي أثبتت فشلها في مختلف الدول والاستعاضة عنها بمقاربة الدعم الميزانوي ( لموريتانيا حاليا دعم ميزانوي مع هذه المؤسسة ب 150 مليون دولار على الفترة 2019 -2021 )وهي المقاربة التي تمكن الدولة من برمجةٍ على أساس موارد تحت تصرفها ومن الطبيعي جدا الإنصات لمآخذ هذه المؤسسة على بعض نصوصنا الناظمة للإنفاق في مجال الاستثمار واتخاذ الإصلاحات المناسبة تبعًا لذلك.
رابعا: علينا الاستعداد وبسرعة لتلبية الشروط والضمانات لتصنيف وتقييم بلادنا سياديا من طرف وكالات التصنيف الائتماني وهو تقييم للاستقرار الاقتصادي والسياسي  والملاءة المالية بما يضمن للدائنين التأكد من قدرة المدين على السداد في الآجال التعاقدية وهو شرط ضروري للولوج للسوق المالية العالمية. هناك العشرات من وكالات التصنيف ولكن أشهرها هي الوكالات الثلاث الأمريكية العالمية موديز وافيتش واس اند بي. السينغال المجاور يخضع لهذا التقييم منذ عدة سنوات وآخر تصنيف له هو- B أي مستقر بآفاق سالبة.
خامسا وأخيرا: على حكومتنا مخاطبة البنك الدولي لإلحاقنا بمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا (MENA) للبنك الدولي ذلك أن صندوق النقد الدولي يصنفنا ضمنها منذ حوالي عشرين سنة كما أن من شأن ذلك رفع نوعية وجودة خدمات الاستشارة الفنية المتحصل عليها من البنك الدولي فأغلب موظفي البنك ذوي الكفاءات العالية يعزفون عن العمل في منطقة إفريقيا التي لا زلنا نصنف ضمنها وذلك عائد لظروف العيش وعدم الاستقرار في هذه المنطقة ما يفتح الباب لكفاءات من مستويات أدنى بالعمل في منطقة إفريقيا.

طال النص واعتذر فهو  آخر جزء في هذا الموضوع
نهاية أسبوع سعيدة للجميع.

تصفح أيضا...