حزب الصواب : افتتاحية
بمنطق المسؤولية السياسة وقوانين الجمهورية ومصلحة المجتمع والامة تعتبر كل دعوة الى العنف او مباركته جريمة ذات عواقب وخيمة على كيان الدولة ، وخير مفصح عن ذلك ما شوهد في البلدان التي مزقها العنف بمختلف اشكاله وأعادها إلى فوضى وفرز عصر ما قبل الدولة، وتسعى دون طائل لترميم ما بقي لديها قابلا للترميم، لكن الدعوة الى الفوضى والعنف تاتي في أثواب وخِرق عديدة ليس اكثرها خطرا تحريض الغوغاء المباشر وصب الزيت على حطب الشارع اليابس كي يشعل سفهاؤه النيران ويهدمون المنشآت العامة والخاصة التي يفترض انها وضعت لخدمتهم يعيثون فيها فسادا بل كامنة بشكل اكثر خطورة في ممارسات حرق معنى الدولة وهيبة السلطة وتغول ممثليها واصرارهم على تحويل المرفق العمومي الى مرفق خصوصي وتكريس الزبونية والمحسوبية واحتقار المواطنين والعبث بمصالحهم وتعطيل حقوقهم في مشاهد يتكرر جرمها المشهود عبر السنوات الطوال دون خوف من عقوبة او محاسبة، وتكرار فشل التسيير والاصرار على اعادة انتاج التجارب الفاشلة وتدوير الفاسدين والمفسدين تحت عناوين شتى والاكتفاء بالشعارات الجوفاء للاستهلاك وقتل الامل واشاعة الياس بين المهمشين والفقراء وكل من يئن تحت معاول الظلم والفقر.
كل ما لدينا من ممارسات منذ عقود خلت يؤكد انطباق التعريف الذي وضعه خبراء البنك الدولي لعملية الاستحواذ على الدولة فهي: (كل الجهود التي يبذلها عدد صغير من الأفراد أوالجماعات أو لوبيات المصالح أو الساسة الفاسدون، لصياغة قوانين اللعبة السياسية والاقتصادية بشكل يجعلها تخدم مصالحهم أو تجارتهم أو مواقعهم أو سلطتهم، خارج القانون وقواعد الحكامة ومبادئ الشفافية)
فكيف نستطيع فهم اعتراف مدير شركة الكهرباء علنا انه وجد اكثر من 400 مولد كهربائي فاسد ومديونية تجاوزت 50 مليار اوقية ولا نرى محاسبة الضالعين ولا فتح تحقيق جدي في الامر ، كيف نستوعب تأكيد مئات التجاوزات الفظيعة في تسيير المال العام وورودها القطعي في تقارير محكمة الحسابات ولا نرى ما يترتب على الامر؟ كيف نستوعب تاهيل واعادة التاهيل المستمرة لمن وردت اسماؤهم في تلك التقارير ؟ كيف يمكن ان نستوعب تصريحات كل مسؤولي قطاع التجارة الرسمية عن اسعار لا علاقة لها بأسعار اسواقنا الواقعة في قبضة الجشع والاحتكار والتربح على حساب انين وصرخات الجياع والمعوزين، أليس من حق المواطن المطحون ان يعرف أين ذهبت عائدات أثمان الحديد والذهب والسمك التي تضاعفت خمس مرات حسب الاعلان الرسمي وحولت محنة كوفيد 19 الى مِنْحَةٍ وهِبةٍ الهية لبلادنا تضاعفت فيها اثمان الصادرات الاساسية لبلده واعفيت جل الديون وتدفقت المنح والهبات؟
ماتم في مقاطعة اركيز ، وشوهدت نماذج منه قبل ذلك في الطينطان وفصالة وكرمسين والشامي وكوبني اعتداء سافر على مصالح عمومية، وهدم لهيبة الدولة ورموزها الضامنة للسكينة والاستقرار بعد الله و ينبغي ان يحاسب مرتكبوه أشد محاسبة لكنها ستبقى في المقابل محاسبة انتقائية وعديمة المضمون اذا لم ترافقها محاسبة أكثر عمقا وجدوائية لكل مسؤول عن الفساد، والنهب والمحسوبية والزبونية والظلم البواح والمجاهرة به خلال عقود من الفشل الذريع لقطاع الخدمات العمومية وتردي الموجود منها ، وغياب العدالة ، وانعدام معايير الإنصاف والمساواة في إمكانية الوصول إلى الحقوق ، وتغييب القانون وتغول سلطوية المسؤولين ، وتحويل تسيير الشأن العام إلى شأن شخصي يحكمه المزاج والمصلحة الشخصية....
إن حرق المقرات العمومية ، جرم لا يغتفر ..ومن أجل مواجهته ، لابد أن نضع في الحسبان أنه ليس سوى تعبير صارخ عن فقدان الامل في الدولة .
إن الذين أحرقوا المصالح العمومية تجب مساءلتهم الفورية كما تجب بشكل اكثر الحاحا المساءلة الفورية للموظفين العموميين من أعلى هرم في القطاع إلى أدناه فهم الذين اجهزوا، بممارساتهم - دون خوف من محاسبة - على كل معاني ورموز الدولة أخلاقيا ، وشوهوا صورتها في الأذهان ، ونزعوا عنها الهيبة والوقار اللازمين ودفعوا عامة الناس والسفهاء إلى عدم احترامها ..
مقاطعة اركيز حسب كل المختصين والخبراء الزراعيين تغفوا على أخصب أرض في العالم يعطي هكتارها الواحد ما يزيد على عشرة اطنان من اغلى مادة زراعية اليوم ( القمح) لكنها منسية من سياسة الدولة ورأسماليتها الغارقة في الفساد، وحولها تجار الريع من الأغنياء الذين يكنزون المال عِوَض استثماره، والذين يتشبثون بالمحافظة والاحتراز، عِوَض المبادرة والبحث عن فضاءات جديدة لخلق الثروة، والذين يفضلون اقتصاد الخدمات سريع الربح، عِوَض الزراعة والابتكار ، ولو وجه بعض من هؤلاء 01% من اموالهم المنهوبة او المشروعة الى هذه المقاطعة لضمنا توفيرا كاملا لسلتنا الغذائية الوطنية بكل مكوناتها واكتفاءنا الذاتي، وكنا اليوم نشاهد مذهولين في هذه المقاطعة واكنافها حركة الحاصدات الكثيفة وزحمة شاحنات التوريد واسواق التبادل التجاري وطنيا وإقليميًا بدل مشاهد الحرق والتدمير والحرابة وما يسور المدينة من حزام بؤس يتسع حولها ويتمدد نتيجة عقود من صناعة الفقر والبطالة و(الاحتفاء) بمشاهدة الاجساد المكدودة اليائسة من رحمة الدولة وعدالتها .