المفكر الموريتاني السيد ولد أباه: حركات الإسلام السياسي انتهت فى الوطن العربي  ( مقابلة)

أحد, 08/08/2021 - 16:00

( مقابلة مع صحيفة الدستور )

ينشغل الأكاديمى الموريتانى «السيد ولد أباه» فى أبحاثه ومقالاته وكتُبه المنشورة المتعلقة بالمسألة الدينية وارتباطاتها بالسياسة، سواء على المستوى الفلسفى لجهة النظريات الفلسفية المعنية بالمسألة من أوجه متعددة، أو على المستوى الواقعى المُتعلّق بالإشكاليات الناجمة عن الارتباط بين الشأنين الدينى والسياسى فى المجتمعات العربيّة فى الوقت الراهن. 
فى هذا الصدد، اهتم أستاذ الدراسات الفلسفية والاجتماعية بجامعة نواكشوط بمتابعة وفحص المسألة السياسية الدينية، ومن هنا جاءت كُتبه البارزة، ومنها «الدين والهوية.. إشكالات الصدام والحوار والسلطة»، و«الثورات العربية الجديدة.. المسار والمصير»، و«الدين والسياسة والأخلاق.. مباحث فلسفية»، وكذلك روايته «الشنقيطى» الصادرة حديثًا والمنطلقة من الانشغالات البحثية ذاتها. 
فى هذا الحوار، يُناقش «الدستور» ولد أباه فى عدد من الموضوعات التى أثارها فى أعماله، وعلى رأسها علاقة الدين بالهوية والأطروحات العلمانية المناهضة لحضور الدين فى المجال العمومى، مُتطرقين للحديث عن تجليات علاقة الدينى بالسياسى وما يثيره من إشكاليات على خلفية الحراك التونسى الأخير المُنقض على قبضة الإسلام السياسى.
 
■ صدرت لك حديثًا رواية «الشنقيطى» وهى عملك الأدبى الأول.. ما الدافع الذى قادك نحو كتابة الرواية؟ وهل أردت التعبير من خلالها عن انشغالاتك البحثية حول الدين والسياسة والهوية؟ وما مساحة الجانب السيرى فى الرواية؟ 
- اشتغلتُ، خلال السنوات الأخيرة، على المسألة الدينية السياسية على المستوى الفلسفى والدراسة الاجتماعية، ونتيجة لهذا الاهتمام أردت أن أكتب فى نفس السياق والموضوع بطريقة مغايرة، وكانت هذه الطريقة هى الكتابة الروائية التى تصل إلى جمهور أكبر وأوسع من الجمهور الأكاديمى، فكتبت هذه الرواية التى تنطلق من شخصية موريتانية ومن ظرفية تاريخية لأطرح نفس الإشكال الدينى السياسى من خلال علاقة رجل دين وحاكم سياسى فى مرحلة عاصفة ومتوترة من التاريخ الموريتانى، ومن تاريخ المنطقة كلها فى الحقيقة، إذ يجوب بطل الرواية مثلث بلاد الصحراء وبلاد السودان وبلاد المغرب الأقصى، وهذا المثلث حاولت أن أرصد تجربته فى مرحلة حاسمة من التاريخ. 
وليس هناك أى علاقة بين هذه الشخصيات الروائية وسيرتى الخاصة، وإنما فقط اتكأت على هذه الشخصية الروائية التاريخية من أجل معالجة موضوع فكرى سياسى. 
■ فى كتابك «الدين والهوية» قلت إن المبدأ الذى تقوم عليه الأطروحة العلمانية، وهو كون تحديث المجتمع يفضى ضرورة إلى انحسار الدين فى الفضاء العمومى، ظهر بطلانه وفنّدته الحقائق الموضوعية التى أثبتت استمرارية دور الأديان فى المجتمعات الإنسانية.. ما العوامل التى قادت إلى هذه النتيجة؟ ولِمَ تقصر الطرح العلمانى على هذه الأطروحة رغم أن العلمانية تتعدد فى أطروحاتها ورؤاها عن الدين؟
- فى هذا الكتاب عالجتُ موضوعين أساسيين؛ موضوع العلمانية والمسألة الدينية السياسية فى الإسلام.. فيما يخص موضوع العلمانية كانت نظرية ماكس فيبر السائدة تقول إن العلمانية مرحلة من الحداثة فى أبعادها العقلانية والمؤسسية والبيروقراطية، وإن هذه المرحلة لا بد أن تُفضى حتمًا إلى إقصاء الدين من المجال العمومى، والعلمنة لها بعدان؛ بعدٌ يتعلّق بالمجال العمومى وهو «اللائكية»، أى الفصل المؤسسى بين الدين والسياسة، وآخر يتعلق بالمسار التاريخى، أى تقلص المرجعيات الدينية وتأثيرها فى حياة الناس. 
قلت إن هذه النظرية ليست هى النظرية الوحيدة، فثمة نظريات أخرى فى العلمنة، بل إن النظريات المعاصرة التى تستند إلى نظرية الفيلسوف الألمانى كارل شميت تقول إن العلمنة تُشكِّل نمطًا من القطيعة بين المؤسستين الدينية والسياسية ومن خروج الدين من المجال العمومى، ولكن من ناحية ثانية هى نقل نفس المفاهيم والمصطلحات اللاهوتية إلى إطار عقلانى عمومى، لأن المجتمعات الحديثة تتسم بالتعددية الدينية والفكرية والسياسية، ولذلك لا يمكن أن يفرض بها موقف عمومى دينى أو غيره، وبالتالى فإنها مضطرة إلى أن تبلور نمطًا من أحكام العدالة الإجرائية التى تضبط المجال العمومى. 
لهذا السبب فإن الدين لا يُمكن أن يشكل قوة مرجعية مشتركة بين عموم المواطنين فى الدولة القومية الحديثة، ولكن هذا الطرح أصبح الآن يُراجع بشكل آخر باعتبار أن هذه القطيعة بين الوعى الفردى، الذى هو مجال المعتقدات الإيمانية، وبين المجال العمومى، الذى هو ميدان هذه القيم المدنية المشتركة، تؤدى إلى نمط من انفصام الشخصية.
لذلك فالفكرة الحديثة التى طرحها الفيلسوف الألمانى يورجن هابرماس، وطرحها أيضًا الفيلسوف الكندى تشارلز تايلور، هى عودة الدين إلى المجال العمومى ليس كقوة مهيمنة ومسيطرة، ولكن عودته بشرط إمكانية ترجمة المعتقدات الإيمانية إلى لغات عقلية.
ما أريد أن أصل إليه من خلال هذه النظرية العلمانية الحديثة التى توقفت عندها هو أننا فى إطار تفكيرنا فى المسألة الدينية والسياسية أصبح لدينا توجه جديد هو أننا يمكن أن نعتمد نمطًا من الفصل المؤسسى بين الدين والسياسة، وهذا جزء من تقاليدنا المؤسسية، وهذا لا يعنى العلمنة الفرنسية القائمة على الفصل الجذرى، وإنما يظل الدين إطارًا من أطر الشرعية والرمزية المدنية العامة بما يمكن عبره إنقاذ الدين من قبضة الحركات الدينية. 
■ هل تعتقد أن المفكرين العرب كان لديهم وعى مُبكر بخصوصية الحالة الدينية فى المجتمعات العربية؟
- صحيح أن كثيرًا من المفكرين تبنوا خصوصية الحالة الدينية فى المجتمعات العربية، وهناك أيضًا من دعا إلى تبنى نفس الطرح العلمانى كما تبناه الغرب الحديث، مثل عزيز العظمة وهو من كبار المتخصصين فى موضوع العلمنة، ولكن ما أود أن أصل إليه هو أننا يجب أن نعتمد رؤية منفتحة على الدين، وهذا لا يعنى أن نتبنى القول بأن الإسلام دين سياسى، ولا يعنى تحويل الإسلام إلى أيديولوجيا دينية للدولة، فالتجربة التاريخية الدينية الوسيطة فصلت مؤسسيًا بين الحقل الدينى وحقل السلطة السياسية، ولكن خصوصية الإسلام فى أنه ليس ديانة فردية فقط ولكن له علاقة بالمجال المدنى العمومى، وهذا ما انتهى إليه الأنثربولوجى طلال أسد، حينما بيّن فى إطار مقارنة بين تشكُّل العلمانية بين الديانات الثلاث أن مفهوم الضمير الفردى يتعلق بالمسيحية ولكنه لا يتعلق بديانات أخرى مثل الإسلام لأنه مرتبط بهوية جماعية. 
■ وكيف تُقيّم هذه الرؤى الفكرية العربية التى بُنيت على أساس قناعة بتعارض بين الأديان ومقتضيات استيفاء شروط الحداثة العربية؟
- النظريات الفلسفية الحديثة، اليوم، بيّنت أن هذه القطيعة بين الدين والمجتمع مستحيلة، فالدين يظل المصدر الأساسى للقيم والمعايير والرمزية الاجتماعية، ولا يمكن أن نُقصيه كليًا من الشأن العمومى، ولكن المهم هو احترام المرتكزات الأساسية فى الحالة الليبرالية ضمن مرجعية متصالحة مع الدين، واعتماد معايير التعددية والحرية التى أصبحت مكونًا أساسيًا من مكونات العقل السياسى الحديث. 
■ إن كانت مجتمعاتنا العربية لم تحقق مطلبها الحداثى كاملًا بعد، فكيف يمكن قراءة بزوغ أدبيات ما بعد الحداثة فى ثقافتنا العربية؟ وهل يمكن اعتبارها ارتدادًا عن السعى نحو الحداثة أم تقويمًا لمثالبها كما تبدّت فى مهدها؟ 
- هذا إشكال أساسى، وفى اعتقادى أنه فى الفكر العربى ظهرت فى العقدين أو الثلاثة عقود الأخيرة إشكالية ما بعد الحداثة من مسالك مختلفة، مثل المسلك الفلسفى وكذلك السرديات والنقد الأدبى، وأعتقد أن هذه الإشكالية مطروحة على مستوى منهجى أساسى، لأننا جزء من هذا الفكر المشترك الذى يتحكم فيه العقل الغربى بالأساس، ونحن مضطرون إلى مواكبة التحولات الفكرية فى المجتمعات الغربية، ومن المفيد أن نأخذ دروسًا من فلسفات ما بعد الحداثة فى إطار تقويم عملية التحديث فى المجتمعات العربية، لكن لا بديل عن القيم الحداثية من أجل التقدم والتطور.
■ ما تقييمك للتعاطى العربى الراهن مع أفكار ما بعد الحداثة؟ 
- فى اعتقادى أنه وعى شقى بالمفهوم النفسى، أى أننا نستهلك ونلوك بعض المصطلحات حتى دون إدراك حقيقى لما يجرى، هو عملية استنساخ سلبية؛ فكثير ممن يكتبون فى هذه الأدبيات لا يعرفون الرهانات الحقيقية للحداثة ولا يعرفون أن ما بعد الحداثة هى، فى الحقيقة، مرحلة فى مسار الحداثة، وهو ما يحتاج إلى فهم مُعمّق للإشكاليات الكبرى التى طرحتها الحداثة. 
■ فى ضوء قراءتك السابقة للثورات العربية فى كتابك «الثورات العربية الجديدة المسار والمصير».. كيف تقرأ المشهد التونسى الراهن ومآلاته المتوقعة؟ وإلى أى مدى تعتقد أن حركة النهضة فى تونس تسير على خُطى إخوان مصر قبل سنوات؟
- هذا الكتاب كتبته فى نهاية ٢٠١١، أى فى نفس عام الربيع العربى، وكُنت متشائمًا فيه ونبّهت إلى أنه إن لم يتم الإعداد جيدًا للمراحل الانتقالية فى البلدان التى جرت فيها الثورات فإنها ستكون وبالًا وشرًا مستطيرًا، وما نبهت إليه حدث بالفعل؛ فمسار الربيع العربى أدى إلى هذه الأزمات الكبرى التى تعيشها البلدان العربية، والسبب الأكبر فيها هو تيار الإسلام السياسى الذى أراد أن يستفيد من هذا المسار، بل كان المستفيد الأول لأنه كان القوة الأكثر تنظيمًا فى البلدان العربية، كما أنه كان جزءًا من أزمة التحول السياسى، وفشل فى التأقلم مع مسارات الانتقال الديمقراطى، وأصبح فى حالة قطيعة مع القوى الليبرالية والتحديثية فى المجتمعات العربية.
ما جرى فى تونس هو فى الحقيقة فشل لاستراتيجية التأقلم التى رفعتها حركة النهضة مع التحولات الجديدة، وبرزت حركة النهضة كحركة معزولة مقصيّة من داخل الحقل السياسى، لأن القوة المدنية والبيروقراطية التونسية والحركات الحقوقية فى تونس أصبحت، اليوم، فى وضع احتجاجى متمرد على هيمنة وتحكُّم حركة النهضة التى أصبحت هى القوة المُعيقة للسير الديمقراطى التقليدى فى تونس. 
ورغم ما قيل عن الخصوصية التونسية واختلاف حركة النهضة فى تونس وأن فكرها متقدم ومختلف عن فكر حركة الإخوان فى مصر، تبيّن أن كل هذه كانت أوهامًا.. صحيح أن المجتمع التونسى واجه تحكُّم حركة النهضة ولم يترك لها مجالًا حقيقيًا لأسلمة المجتمع، ولكن فيما بعد كانت التجربة العملية لا تختلف كثيرًا عن تجربة الإخوان فى مصر فى إعاقة مسار التحول الديمقراطى وتهديد النظام المؤسسى للدولة، وما نشهده اليوم هو انهيار مشروع حركة النهضة فى الانقضاض على الدولة فى تونس وتقويض مؤسساتها الحاكمة. 
■ هل يمكن اعتبار ما يحدث فى تونس حاليًا وما شهدته البلدان العربية من ويلات الإسلام السياسى إثباتًا وإعلانًا لفشل هذا المشروع تمامًا؟
- طبعًا، هذا هو الدرس الحقيقى، ففى ٢٠٠٧ قلت فى محاضرة إن ما يسمى باراديم الإسلام السياسى قد انتهى، والبديل إما أن تتحول هذه الحركة إلى حركات ليبرالية محافظة، أو حركات راديكالية عنيفة ومتطرفة، وأعتقد أن ما توقعته حدث مع الأسف. هذه الحركات الإسلامية لم تستفد من المسارات التى فُتِحت لها وأصبحت مُعيقة لتقدُم المجتمعات العربية وهو ما أوصلنا إلى هذه النتيجة التى ذكرتِ. 
■ قلت إن «تشكل الخطاب الإخوانى كان نكوصًا عن التوجهين الأساسيين اللذين عرفتهما الساحة الإسلامية فى بدايات القرن العشرين، وهما التوجه الإصلاحى الاجتهادى والتوجه الفلسفى التنويرى».. إلى أى مدى تعتقد بأهمية حضور التوجهين أو أحدهما راهنًا بعد انحسار الخطاب الإخوانى وفشله؟ 
- صديقى المفكر اللبنانى رضوان السيد يُبشِّر منذ سنوات بالسردية الإسلامية الجديدة، ويعتقد أن هناك خطابًا إسلاميًا نهضويًا حداثيًا، وأن هذا الخطاب تشكّل خارج حركات الإسلام السياسى تمامًا، وهو خطاب يعتمد مفهوم المواطنة الشاملة والأخوة الإسلامية مع الغير ومقاصد الشريعة كأساس رؤية جديدة للعالم، ويعتقد أن هذه الرؤية بدأت تتشكّل فى مقابل خطاب الإسلام السياسى.
فى اعتقادى، هناك فعلًا صراعٌ حول من يصنع الخطاب الإسلامى، وهناك إرادة ظاهرة لدى عدد من المؤسسات الدينية لإنتاج سردية إسلامية جديدة تكون متصالحة مع الدولة الوطنية ومتصالحة مع العالم أيضًا. 
■ قلت إن مفهوم الدولة الإسلامية لم يظهر سوى بظهور حسن البنا، وإن الدولة المناط بها تطبيق الدين فكرة لم يَقُل بها فقهاء الإسلام.. فى المقابل نجد الإسلاميين يستندون فى محاججتهم إلى التاريخ الإسلامى الذى شهد وجودًا للدولة الإسلامية يظنون بإمكانية استعادتها.. كيف تنظر إلى المسألة؟
- أرى أن الالتباس كله آت من عبارة الدولة الإسلامية، هناك خلط كبير بين مفهوم الدولة الإسلامية ومفهوم الإمامة الذى هو المفهوم المركزى لكل أدبيات السياسة الشرعية ومفهوم الدولة القومية الحديثة، والإسلام دون شك له أحكام تتعلق بالجماعة وأحكام تتعلق بالشريعة، أما القول إن الإسلام دين ودولة لم يسبق أن قاله أحد قبل حسن البنا، وليس له أى نظير فى كتب الفقه السياسى الإسلامى، لأن فى الشريعة الإسلامية ليس للدين مشروع سياسى ولا يمكن أن يُترجم فى بناء سياسى بشرى.
هناك كتاب مهم صدر قبل سنوات لوائل حلاق بعنوان «الدولة المستحيلة»، هذا الكتاب يُبيّن أن تجسيد الدين فى بناء سياسى يتناسب مع المرجعية اللاهوتية المسيحية ولكنه لا يمكن أن يتناسب أبدًا مع المرجعية الإسلامية، فالإسلام أكثر رفضًا للدولة الدينية من المسيحية، وبالتالى الدول التى حاولت أن تؤسس مفهوم الدولة الإسلامية فى الحقيقة كانت ضحية هذا الالتباس.
■ قلت إن الثقافة العربية لم تُنتج فلاسفة عربًا، بل مشاريع فكرية خارج التأسيس الفلسفى بسبب سيادة الخطاب الأيديولوجى.. ألم يكن هذا استجابة لظروف العالم العربى واضطراباته السياسية على مدار التاريخ؟ وما الأثر السلبى الذى خلّفته هذه الحالة؟
- الفلاسفة الغربيون عندما كانوا يطرحون مشكلات مجتمعاتهم وعصرهم كانوا يكتبون بلغة فلسفية كونية؛ مونتسيكو وفولتير وكانط أهم فلاسفة التنوير الأوروبى كانوا يكتبون حول قضايا الاستبداد والحرية من خلال قضايا مجتمعاتهم، ولكنهم يتحدثون بلغات الفلسفة الكونية. 
مشكلة المفكرين العرب أنهم لم يكونوا يكتبون بلغة الفلسفة الكونية، وإنما كتبوا خطابًا أيديولوجيًا مرتبطًا بصفة انتقائية بالواقع السياسى الذى يعيشونه، وبذلك لم ينتج الفكر العربى فلاسفة، وإنما أنتج صناع خطاب أيديولوجى، وهو مهم لكل المجتمعات ولكنه لا ينتج فلسفة.
فى رأيى، العائق الكبير الذى حال دون إنتاج الخطاب الفلسفى العربى هو أن المفكرين الذين اشتغلوا مثلًا بالمسألة التراثية كانوا منخرطين فى صراعات أيديولوجية مباشرة، ولذلك لم تكن عندهم المسافة التأملية والنقدية التى تسمح لهم بكتابة فلسفية بلغة كونية.. وأعطى هنا مثالًا؛ هناك مفكر مسلم من هذا النوع، محمد إقبال، فيلسوف يكتب فى تجديد الفكر الدينى لكنه ينطلق من اللغة الفلسفية الكونية، أما فى الفكر العربى فليس عندنا هذه النماذج رغم أن المفكرين العرب أصحاب تكوين فلسفى. 
أيضًا فى عام واحد أصدر الجابرى «نقد العقل العربى»، وأصدر هابرماس كتابه الأساسى حول الفعل التواصلى، بعد أربعين سنة نقول إن كتاب الجابرى مهم من ناحية الأفكار التى أنتجها ومن الناحية المنهجية، لكنه لم ينتج رصيدًا فلسفيًا، بينما ترك كتاب هابرماس أثرًا مكينًا فى توجهات الخطاب الفلسفى. 
المجتمعات العربية تحتاج إلى الفلسفة، لأن كل تجارب النهوض الكبرى التى ظهرت فى العالم استندت إلى الفلسفة التى تشكل نمطًا من التفكير المعمق والجوهرى للقضايا الكبرى ولا محيد عنها من أجل تحديث مجتمعاتنا. 
■ كيف ترى دور المفكر العربى فى العقد الأخير المضطرب من عمر العالم العربى؟ وما النجاحات والإخفاقات التى يمكن الوقوف عندها؟
- مع الأسف، لا توجد الآن كتابات فكرية لافتة فى العالم العربى، فنحن نعيش نهاية عصر المشاريع الفكرية الكبرى، لا سيّما بعد أن ودعنا هشام جعيط ومحمد أركون والجابرى ونصر حامد أبوزيد، والباقون لم يعودوا فى وضع يمكّنهم من إنتاج الجديد، ولا أرى فى الساحة الآن نقطة ضوء حقيقية، والمخاض العسير الذى مرّ به العالم العربى أثّر على الحالة الفكريّة مثلما كان مؤثرًا فى الاضطراب السياسى والعنف الاجتماعى. 
ما رؤيتك للموقف الأمريكى الداعم لتونس فى مساراتها الحالية؟ 
- الموقف الأمريكى ما زال ملتبسًا، فيبدو أن الإدارة الأمريكية تفهّمت التحول الذى وقع فى تونس، ولم تطلق عليه انقلابًا، وهذا فى حد ذاته تحول إيجابى، ولكن هناك جناحين فى أمريكا؛ الجناح الأوبامى الذى قد يكون له بعض التعلق بأوهام الربيع العربى، والاتجاه الأمريكى التقليدى الذى يهتم بالمصالح العليا للولايات المتحدة الأمريكية، ومنها الاستقرار السياسى فى الدول العربية.

تصفح أيضا...