لا يختلف اثنان على أن المجتمع البدوي الموريتاني قد اقترنت حياته بالترحال والتجول وعدم الاستقرار الدائم في مكان واحد.
ومن المعروف أيضا والمسلم به أن ترحال أهل البادية كان دائما عقلانيا ومبررا. فكان الترحال لا يتم الا لسببين أساسيين هما البحث عن المرعى والمياه للمواشي او البحث عن تحصيل العلم. ناهيك عن الترحال المعروف لأسباب « الكيطنة" او الترحال الي "لكراير" لزراعتها عندما تغمرها السيول إثر هطول الأمطار .
وعندما أصبحنا دولة شبه حديثة لها نظم إدارية وحكومات تتألف من وزراء وأمناء عامون ومدراء ورؤساء أقسام و ولاة وحكام مقاطعات وقادة عسكريين بمختلف الرتب ومدراء شركات عمومية وغير ذلك من الوظائف التي يتم التعيين فيها من أعلى السلطات في البلاد، فهل توقفنا عن الترحال؟ لا والله، فلم نتوقف، فلقد ظل هاجس الترحال يلاحقنا حتى في تسيير شؤون البلاد. فالبلاد كلها تظل معلقة حول المذياع أو شاشة التلفاز بعد كل مجلس وزراء لا لتستمع لقرارت تتعلق بالتنمية وإصلاح شؤون البلاد بل لتستمع فقط لجولة من الترحال بين وظائف الحكومة إثر تعيينات جديدة لا نعرف أسباب ومبررات اتخاذها. فبعد كل دورة لمجلس الوزراء تجد الناس يتساءلون عما تم اتخاذه من قرارات جديدة. فإذا لم يكن في بند "الإجراءات الخصوصية " تعيينات جديدة يقولون لك أن مجلس الوزراء "ما طر شي" حتى ولوكان من ضمن قراراته الموافقة على الميزانية العامة السنوية للدولة.
فمن يلام هنا؟ هل هي الحكومة أم هم الناس البسطاء الذين عودتهم الحكومة على لعبة الترحال بعد كل دورة لمجلس الوزراء؟ فأنا لا ألوم الناس البسطاء الذين ينتظرون بعد كل دورة لمجلس الوزراء علهم يسمعون بتعيين قريب لهم أو أحد أفراد قبيلتهم أو أحد منحدر من منطقتهم أومن ولايتهم.
فكلما تم تعيين أحد من موالاتهم يتباشرون بأنهم ضمنوا نصيبا من الكعكة، ثم يتسابقون بالتهنئة وجلب الذبائح والنحائر لمن تم تعيينه في وظيفة سامية. فمن تم تعيينه منهم سيخصص لهم نصيبا من الموارد التي أسندت له ادارتها بحكم وظيفته أو هكذا يتوهمون.
فأين مسؤولية الدولة من هذا كله؟ فهل مواردها توزع بهذه الطريقة؟ فبأي حق إذا ما تم تعيين شخص ما على وزارة أو إدارة مهما يكن اختصاصها يكون له الحق في توزيع الموارد المخصصة له في اشباع رغبات من يحول حوله من أقارب اومن له علاقات أسرية أو قبلية أو جهوية أو عرقيه معه؟
فنحن نعايش هذا الوضع منذ الاستقلال لم يتغير فيه أي شيء، فكل حاكم يتسلم قيادة الدولة بشرعية أو بغير شرعية، وما أكثر تلك الأخيرة، يستمر في نفس النهج في تعيين المسؤولين حسب ما يحلو له ووفق توازنات لا يراعي فيها سوى معايير القبلية والجهوية والعرقية والمحاباة والزبونية إن لم تكن معايير الولاء الأعمى في خدمة مصالح السلطان من أجل إثرائه وإثراء من يرغب في إثرائه من حاشيته.
فماذا يعني لنا هذا الأسلوب الفاسد والمتخلف؟ فمن كل فينة الى أخرى تطل علينا الحكومات في حملة ترحال مملة ومتشابهة باستبدال وزير أو أمين عام أو مدير من مكان الي آخر أو من قطاع الي آخر. ماذا يعني أن تأخذ وزيرا كان مسؤولا على قطاع الثقافة وتضعه على وزارة النفط مثلا أو تأخذ أمينا عاما لوزارة العدل وتضعه أمينا عاما لوزارة المالية. وماذا يعني أن تعين وزيرا علي قطاع معين وبعد ثلاثة أو ستة اشهر تحوله الي وزارة مختلفة قبل أن يستوعب بل حتى كيف يفهم ويستوعب مهام وزارته؟ فيرحل من وزرارة الي أخرى مغايرة مهامها واختصاصاتها تماما ولا يستقر فيها حتى يتم ترحيله الى وزارة اخرى ليبدآ من جديد يتعلم حروفها الأبجدية.
فهذا النمط من تسيير الإدارة العامة لا يعني أي شيء ولا يستجيب الى أي منطق عقلاني. فالمسؤول ان كان ناجحا في عمله فليترك في وظيفته وفق المثل الذي يقول «أن الحصان الذي يفوز لا يجب استبداله" وان كان فاشلا، فيجب استبعاده نهائيا من المسؤولية ومحاسبته ان كان هناك مبرر لذلك.
ألم يحن لنا بعد أكثر من ستين سنة من استقلالنا أن نتساءل عما هي المعايير التي يتم على أساسها تعيين مسؤولينا في كافة وظائف الدولة؟ هل هي معايير مبنية على توزيع الثروة الوطنية على فئة قليلة من المتمصلحين الذين يدورون في فلك السلطان وإقصاء السواد الأعظم من سكان الوطن؟ أم أن هناك معاييرا أخرى تكفل حسن تسيير البلاد وتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية والعدالة فيها؟
أنا لا أريد أن اعطي درسا في حسن التسيير لأي أحد كان، لكني و أمام هذا الاستمرار والتمادي في تعيين موظفي الدولة علي أسس بائدة ومتخلفة لا تخدم مصالح الوطن ولا تؤتي بأي نتيجة ولا تسمن ولا تغني من جوع، لا بد، ومن منطلق الوطنية والغيرة علي مصالح الوطن، بأن أقف وأقول علي رؤوس الأشهاد وبصوت عالي: كفى، كفى، وكفى، فقد سئمنا من هذا الأسلوب العشوائي المتخلف في تسيير شؤون بلادنا.
أن أسلوب تعيين موظفي الدولة لا بد من ان يُقَنّنَ وأن توضع له معايير مهنية صارمة تحقق هدفين أساسيين، أولهما منع السلطان من استغلال نفوذه وسلطاته في تعيينات لا تصب الا في مصلحته الشخصية ومصلحة من يدور في فلكه وثانيهما تحديد معايير مهنية وعلمية تضمن مبدأ "الرجل المناسب في المكان المناسب "
فالمعايير المهنية المطلوبة لأي وظيفة لا يجهلها أحد، فهي، وكما يعلم الجميع ببساطة ، تتلخص فيما يلي:
1 ـ التأهيل العلمي والأكاديمي في مجال الوظيفة
2 ـ الخبرة المهنية والتجريبية في مجال الوظيفة
3 ـ النزاهة والاستقامة في أسلوب التسيير الإداري
4 ـ توفر رؤية متكاملة لتحقيق الأهداف المرتبطة بالوظيفة
تلك هي أبسط المعايير التي يجب ان تتوفر في من يتم اختياره لشغل وظائف إدارات تسيير شؤون بلادنا المغلوبة على أمرها.
وفي مقال سابق كنت قد تناولت بعض جوانب هذا الموضوع ولكن وكالعدة لم يـأخذ بها لأن مقالاتنا ومساهماتنا الفكرية والفنية، نحن معشر من يتطفلون على فئة المثقفين، ينطبق عليهم المثل الحساني " حلاب نافته في الظاية"
فقد طالبت في ذلك المقال بان هناك وظائف سامية يجب أن يخضع التعيين فيها لمعايير صارمة لما يترتب عليها من أهمية في تسيير موارد البلاد وضرورة صونها والمحافظة عليها. فهناك الوظائف السياسية والتي يتولى رئيس الجمهورية اتخاذ القرارات فيها. لكن لا يجب إطلاق العنان في تلك التعيينات بدون أن تكون لها ضوابط فنية ومرجعية. فالرئيس له الحق الكامل في تعيين وزراء حكوماته لكن لا بد من أن تخضع هذه التعيينات للمعايير المذكورة أعلاه من تأهيل علمي وخبرة ونزاهة ورؤية وبرامج مفصلة لتحقيق أهداف قطاع وزارته التي يعهد اليه بتسييرها. وفضلا عن ذلك، يجب ان يعرض رؤيته وبرامجه على الهيئات البرلمانية لتزكية تعيينه في منصبه بعد أن يناقشونه ويتأكدون من تأهليه للوزارة المعين عليها. وهو اقتباس مما يجري في أعرق ديمقراطيات العالم وهي الولايات المتحدة الامريكية. فهناك يختار الرئيس الوزراء لكن لا يتقلدون مناصبهم رسميا الا بعد تزكية الهيئات التشريعية في البلاد. لهم. وما المانع من اقتباسنا من تجربة ناجحة وناجعة كهذه؟
أما المؤسسات العامة كالشركات الوطنية للمعادن والبنك المركزي والشركات المكلفة بتوفير خدمات المياه والكهرباء والأدوية وشركات تسيير الثروات الوطنية الأخرى من موارد معدنية وبحرية وزراعية وغيرها، فهذه المؤسسات ونظرا لما لها من أهمية في تسيير ثروات البلاد فيجب أن توضع لها مسطرة خاصة لاختيار الأطر الذين ستسند لهم إداراتها. فما المانع من أن يخضع اختيار مدراء هذه المؤسسات الي مبدأ المنافسة الشريفة والشفافة لكافة أطر الوطن الذين تتوفر لديهم الخبرة الفنية المطلوبة لكل وظيفة من هذه الوظائف وفق اختصاصها. فببساطة تعد بنود اختصاص كل وظيفة والشروط المؤهلة لها وينشر اعلان بذلك يتنافس عليه كل إطار موريتاني يجد في نفسه توفر الشروط المطلوبة للوظيفة. ويعهد للجنة من الخبراء فرز العروض التي ترد لكل وظيفة معروضة ويتم اختيار الأفضل منها.
بعدها يتم التعاقد مع من تم اختياره لفترة زمنية محددة يتم تقييم عمله خلالها وعند انتهائها يحاسب وفق ما انجز أو أخفق فبه من تسييره، ولا يجوز تغييره خلال فترته التعاقدية الا إذا ارتكب أخطاء تسيريه فادحة.
وبهذا الأسلوب نضمن الهدف الدي يحقق ضرب عصفورين بحجر واحد، فمن جهة، نضمن اختيار الأفضل المناسب لكل وظيفة مع منح الفرص المتساوية لكافة المتسابقين من الوطن دون تمييز أو إقصاء، ومن جهة أخرى تتلافى التذمر والغيرة وعدم الرضى عن التعيينات لأسباب قبلية أو جهوية وعرقية.
ثم ان هناك نوع آخر من الترحال لا يقل خطورة عن الترحال بين وظائف الدولة، وهو الترحال بين اختصاصات الوزارات. فقلما يتم تعديل وزاري دون ان يجرى تعديل مصاحب في اختصاصات الوزارة حيث يتم تخويل بعض الاختصاصات من وزارة الي أخرى كأن يحول قطاع الصناعة مثلا من وزارة الاقتصاد الي وزارة الزراعة أو يحول قطاع الشباب الي وزارة التعليم مثلا أو يتم انشاء وزارة جديدة يعهد اليها بقطاع كان من اختصاص وزرارة أخرى أو غير دلك من التعديلات البنيوية في الهيكل الوزاري.
ومع أن بعض هذه الترحيلات والتعديلات قد تجد بعض المبررات أحيانا لكن المراقب لا بد وأن يتساءل عن أسبابها وعلى أي أسس ومبررات تم اتخاذها لان هذه التعديلات مكلفة وتربك العمل الإداري لفترات طويلة يتيه فيها المواطن وطالب الخدمة بحثا عن اين توجد المصلحة التي يبحث عنها.
ان تعديل الهيكل الإداري للقطاعات الوزارية للحكومة لا يمكن ان يترك للقرارات العشوائية والارتجالية بل يجب أن يخضع لدراسة فنية عالية الجودة والجدوى يعهد بها الي بيوت خبرة دولية متخصصة تفدم أفضل هيكلة إدارية عصرية تتناسب مع خدمة وتحقيق أهداف التنمية الاقتصادية والاجتماعية حيث يتم تحديد هيكل كل وزارة على حدة لتضم المصالح المتكاملة والمتناسبة التي تحقق أجود الخدمات وبأقل تكلفة ممكنة.
هذه بعض المقترحات البسيطة التي نقدمها لمتخذي القرارات في بلادنا الحبيبة علهم يستفيدون منها أو يقتبسون منها و الا فلا مانع لدي من أن يتم رميها في سلة المهملات كالعادة. فلن تكون المرة الأولى ولا الأخيرة في ان " 'نحلب ناقتنا في الظاية"
وما أريد الا الإصلاح....