المخاطر التي تتهدد البلدان في عالم اليوم الذي لم يعد متغيرا فقط، بل متفتتا، عصية على الحصر .
هذه المخاطر على تنوعاتها المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية ...( خارجيا وداخيا) ، تطرح تحديات جدية على وحدة وسيادة واستقرار الأوطان .
غير أن الفكر الإصلاحي الذي يروم مواجهة هذه المخاطر وتطويقها، تتعدد منهجياته ومقارباته، بتعدد الدول والأفكار والتوجهات .
-في المسألة الموريتانية يمكن اختزال تلك المخاطر والتحديات ، وإن بشكل أقرب للإجرائية وربما مخل أيضا- في بعدين :
الأول؛ بعد قيمي : يُلحظ هنا تراجع قيم كبيرة وتمثل مفاهيم ناظمة للفكرية الوطنية ، وهي قيم مرجعية وذات طبيعة كلية، تضبط وجود الكيان الوطني، وتضمن له مستوى من الأمان ،لكونها حاكمة على المجالات الميدانية والجزئية تراقب وتعالج أخلالها واختلالاتها.
تَراجع هذه القيم المتمثلة في الثقة، والمصداقية ، والتسامح، والاحساس العام بمركزية قيمتي السلم والعدل ، ولد فراغا عميقا وكبيرا في عقول وواقع الدولة والمجتمع الموريتاني ، بل جعل الحياة العامة مجتمعيا ورسميا، تفتقد أحيانا للمغزى ، وكأننا نعيش خارج عقد اجتماعي كبير ، يمثل محيطا شرعيا وحاضنا ضروريا، للفعل العام من جهة والأحداث ( الممارسة ذات الطابع الموازي والمدني ) من جهة أخرى .
الثاني؛ بُعد يتعلق بتراجع أو عقم السياسات العمومية: هذه السياسات التي يجب أن تمثل في الواقع، ترجمة عملية لتلك القيم الكبرى، والتي يجب أن تعمل على إنتاج المواطنة وتعميقها ، وإذا كنا نتفق على أن المواطنة هي شيء زائد على الولادة على الإقليم وحتى على الشعور الجبلي والفطري تجاه الأمة والأرض، فلا بد لها من الرعاية والتعميق. إن إنتاج هذا المفهوم الخاص وتمكينه " المواطنة"، يحتاج سياسات عمومية مصممة بعناية، على نحو حقوقي وقانوني من جهة ولكن على نحو إنساني وقيمي شرعي أعلى سموا؛ وهنا مسجر تنور أزمة التجاذب في موريتانيا ، حيث لا نزال نراوح في إطار لعبة سياسية غرائزية ومغنمية، لا هي أرتقت واسترشدت، بتلك القيم كشرط لا بد منه لقيام الدول واستمرار المجتمعات ، ولا هي اجترحت أفكارا وتوجهات تغني السياسة العامة التي تتعاطى، مع الحاجات الأساسية والجوهرية للمواطن الموريتاني ، وإنما تسيدت الميولات الفرعية والثانوية على حساب المصلحة العامة ، التي لو قامت في الواقع لتحققت المصالح الشخصية والقريبة - المشروعة طبعا -تلقائيا تبعا لها.
من هنا أصبح التفكير والممارسة تتنطلق من معطيات، تتراوح بين الشخصي بالمعنى الأناني إلى الجهوي والقبلي والاثني، دون أن يتكلف أصحاب هذه الأفكار والدعوات ؛ استحضار الأبعاد المختلفة للمصلحة العامة، ودون أن يتفقوا على حدود أو خطوط ما أو سقف، للعبتهم الأنانية والاقصائية في آن معا، وهو ما جعل التصريحات والمسلكيات السياسية عموما تبدوا منفلتة من عقال الشرعية والمصلحة والعقلانية.
بكلمة واحدة في ظل غياب قيم كبرى ناظمة وقصور تنموي فاضح ولا يزال عاجزا منذ الاستقلال حتى الآن ،عن تلبية الحدود الدنيا من متطلبات العيش الكريم والعدالة في الفرص ، ستتوالد المشكلات ، خاصة مع وجود فاعلين سياسيين أو مجتمعين لا حدود لنهمهم الخاص وتجاهلهم للمشكلات الحقيقية والجوهرية والعامة ، التي تمثل عوامل متداخلة لخلفية أي صراع غير مطوق لا قدر الله.
- إن مواجهة مثل هذا الوضع ومحاولة انتشال واقعنا المجتمعي والوطني؛ يجعل تحديد الوصفة العلاجية أمرا غاية في التعقيد، ومع ذلك يمكن لهذه العجالة أن تقترح أفكار عامة -عامة جدا - تحتاج الكثير من المقترحات الجزئية، لتحليلها وانزالها على الواقع، للعبور إلى مستقبل أفضل، لا أشك في أن كل الموريتانيين يحنون إليه.
لذا اعتقد بإمكانية تلخيص رؤية عامة انطلاقا من أسئلة كلية خمسة:
1- سؤال الإرادة ( المجتمعية والرسمية)
2- سؤال الثقة ( في المؤسسات وداخل المجتمع وبين المجتمع والمؤسسات)
3- سؤال العمل ( علما وتخطيطا وتنظيما وموردا وتدبيرا وإنتاجا)
4- سؤال الأخلاق( عتبة وسقفا)
5- سؤال التعاون ( قيمة وفلسفة)
- وهي أسئلة ملحة تحوطها مبادئ عامة تتعلق بالدين -(تجديد الرؤية المعرفية المحلية) وبروح العصر (وما أنتجته إنسانيا ومعرفيا).
هذه المبادئ الهادية في الدين والعصر ؛هي المحيط الذي تتحرك وتتفاعل فيه هذه الأسئلة، مما يعني حراكا مضبوطا ومنضبطا وموجها؛ أي ليس عبثيا ولا ذرائعيا بالمعنى السلبي ؛ قد يؤسس لمرحلة من الانصات والتعاون بين النخب من كل التوجهات .
-بقى أن نقرر حقيقتين هامتين وحتى لا نوصم بالعدمية :
الأولى؛ أن الظروف الآنية مواتية لمثل مانرمي إليه من الدفع بالمسألة الوطنية عموما والمجتمعية خصوصا في صلب الأجندة الرسمية ؛ وذلك لوجود رئيس شرعي خطابه المعلن وسلوكه الملحوظ ينم عن وعي عميق ؛ بقيمة التجانس والتعاون والوحدة.
ثانيا؛ أنه وبالرغم من كل المشكلات البنيوية والعرضية وماتعاور البنيان الوطني من النواقص ، فإن مكتسبات هامة ترسخت حتى الآن يمكن البناء عليها ، خاصة في المجال الحقوقي والانساني اعترافا وتشريعا ومعالجة، وكذا المجال الأمني والسيادي خاصة وجود مؤسسة عسكرية ظلت تحرس هذا البناء وتحوط أمنه واستقرار واستقلاله .
والله أعلم
السعد بن عبدالله بن بيه
رئيس مركز مناعة الإقليمي لليقظة الاستراتيجية