وقر في وجداننا نحن الموريتانيين.. بل وقر أيضا في وجدان أشقائنا العرب أن بضاعة هذا البلد هي الشعر والأدب، إذ تختزن الذاكرة العربية صورة طيبة لموريتانيا الأمس.. إنها صورة "بلاد شنقيط" بحمولتها المعرفية التاريخية.. و"أرض المليون شاعر" بشحنتها الرمزية الأسطورية.. وغيرها من النعوت والأوصاف التي اقترنت بالبلاد، وارتبطت ارتباطا وثيقا بالإحالة إلى مرجعيتها المعرفية وإشعاعها الأدبي والثقافي.
وليس هذا من قبيل الخطاب الإنشائي الممجد للتراث الوطني، دون الركون إلى تمحيص علمي وتحليل موض وعي للظواهر والوقائع.
ففي الوقت الذي كانت فيه القصيدة العربية في المشرق تمر بالركود والانطفاء، ظلت جذوتها في توقد وجمرتها في توهج في بيئتنا الشنقيطية، ومن هنا تشكلت ملامح نظرية "الحلقة المفقودة"، وذهب بعض الباحثين والدارسين إلى القول بضرورة مراجعة "مقولة الانحطاط" في تاريخ الثقافة والأدب العربي؛ على اعتبار أن النهضة الشعرية في هذا البلد، قد شكلت حلقة مفقودة من سياقها العربي العام.
وإذا كانت تلك صورة شنقيط أو "موريتانيا الأمس" فى ذاكرة الأشقاء العرب؛ فإنها لا تزال تواصل عطاءها الإبداعي بخطوات واثقة وتدرج رصين، وإن اعترته بعض الهزات والهنات، فتلك ظاهرة صحية مردها ما حصل من تحولات وارتحالات سوسيو- ثقافية، تحفز على المراجعة والوثوب للتحليق من جديد في فضاءات العطاء العلمي والثقافي المعاصر.
ويستدعى ذلك التأسيس لمشروع خطاب نقدي حداثي؛ يوازى الحركة الإبداعية ويؤطرها تأطيرا منهجيا وموضوعيا في ضوء ما توصلت إليه التجارب العربية والعالمية.
لقد شهدت الحياة الثقافية والأدبية في العالم مجموعة من التغيرات والكشوفات المعرفية التي منحت الخطاب النقدي أفقا نظريا جديدا، وبات من المستحيل تجاهلها والركون إلى المسلمات والقناعات النقدية التقليدية، وأصبح لزاما على الناقد أن يعيد النظر في منطلقاته وأدواته في ضوء المعطيات المستجدة.
ثمة نزوع ملح إلى التجديد، ورفض قوي للخضوع إلى سلطة المألوف والمجتر، وهناك استراتيجيات وقناعات نقدية، تؤمن بتعددية المنظورات والمقاربات والمناهج والقراءات داخل هم حداثي مشترك، يلتقى حول ضرورة تركيز الجهد النقدي على النص الأدبي ذاته، وتجاوز الإطار الضيق للمناهج والمقاربات التي تعنى "بخارجيات النص" وما حوله وتتجاهل النص ذاته، أو تتناوله بطريقة مبتسرة.
بيد أن ذلك لا يعنى الانغلاق على استراتيجية نصية محايثة ومكتفية بذاتها، فلا بد من النظر بعين الاعتبار لفاعلية بعض عناصر الإطار المرجعي والسياقي، وفحصها في حدود تجلياتها الجمالية داخل النص الأدبي، إننا لا ندعو إلى الاكتفاء بالكشف عن المستويات الألسنية والسيميولوجية للنص، بل نسعى لاستكناه الخيوط السرية التي تشد النص إلى سياقه ومرجعه الخارجيين: (التاريخ.. الواقع.. المؤلف.. منظومة القيم الاجتماعية والإديولوجية.. اللغة.. التراث...) وكل الأشياء المادية والروحية التي تقع خارج النص، وتتشكل فنيا داخله.
وأسوة بما يجرى في الساحة النقدية العالمية، فإن الدارسين والباحثين الموريتانيين أخذوا بدورهم يتحسسون في مقارباتهم النقدية ضرورة مواجهة التحدي الحضاري الجديد، بما يستلزمه من انفتاح على الانفجار المعرفي الواسع بشكل جدي، بغية إعادة تشكيل رؤاهم النقدية في ضوء كشوفات العصر الكبرى.
بيد أن المقاربات النقدية الموريتانية - في أغلبها - ظلت أسيرة ظروف بحثية ضيقة، وحبيسة مناخ أكاديمي خانق بقيوده واشتراطاته، فأغلب هذه المقاربات أعدت على شكل أطاريح لنيل درجات علمية من مؤسسات جامعية احتضنت أصحابها، فأسهمت في تشكيل وعيهم، وبالتالي توجيه مشروعهم وخطابهم النقدي.
إن بلورة وتأسيس مشروع خطاب نقدي حداثي، بما يحمله مفهوم الخطاب من دلالات الانتظام والتماسك والانسجام، يقتضى تحرير الناقد الموريتاني من ربقة الانتماء الأكاديمي الضيق، ليتحول النقد لديه إلى ممارسة ذاتية غير موجهة، ولا تحكمها إلا ضوابط المقاربة الموضوعية، وبغض النظر عن مرجعيته أو مذهبه أو رؤيته التي ينطلق منها، فإن العبرة بالنتائج والخلاصات التي يصل إليها، وبمدى قدرته على استكناه جمرة النص، واقتناص مكمن الشعرية فيه.
ولعل تعدد الاتجاهات والرؤى والمدارس ملمح ثر..! ومحضن خصب لنمو حركة نقدية متماسكة ونشطة، موازية للساحة الإبداعية ومواكبة لها.
لا شك أننا في حاجة ماسة إلى بلورة وصياغة مشروع خطاب نقدي أصيل ورصين.. بعيدا عن المجاملة والتقريظ والمديح المجاني، فإن نحن أفلحنا في ذلك؛ فسننجح في استقراء وتمحيص وتقويم نتاجنا الإبداعي، لنميز الغث من السمين ونعرف الصالح من الطالح.
وسبيلا إلى تحقيق ذلك لا مندوحة عن ممارسة "نقد النقد" في بلادنا، فالنقد الموضوعي والعلمي هو وحده الذى سيضمن غربلة نتاجنا، وليس النقد الأدبي فحسب، بل أظننا بحاجة ماسة - أيضا - إلى نقد اجتماعي ونفسي وثقافي، أو بالأحرى لنقل إلى نقد ابستمولوجي شامل تجاه مختلف أبعاد ومجالات حياتنا العلمية والعملية.