تجدون في الأسفل فيديو به فتوى العلامة محمد الحسن ولد الددو
هذه الفتوى مشكلة غاية الإشكال ؛ لأن مقتضاها بل صريحها أن السعي لا يشترط أن يكون بين الصفا والمروة .
وهذا ما لم يقل به أحد من علماء الإسلام لا قديما ولا حديثا فيما وقفت عليه .
أما في القرون السالفة فقد تواتر عمل المسلمين على السعي بين الصفا والمروة ، وكان سعي النبي صلى الله عليه وسلم بينهما بيانا لقوله تعالى (فلا جناح عليه أن يطوف بهما)
كما صرح به ابن يونس في الجامع (514/4) .
وقالت عائشة رضي الله عنها في الحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم (ما أتم الله حج امرئ ولا عمرته لم يطف بين الصفا والمروة)
وأخرجه بلفظ آخر وهو (وقد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما)
وما بين الشيئين لا يصدق لغة على الخارج عن مجالهما ؛ قال علماء اللغة : "بين" موضوع للخلل بين الشيئين ووسطهما.
أما في هذه العصور فإن الذين قاموا بتوسعة المسعى لا يدّعون أن السعي لا يشترط كونه بين الصفا والمروة ، بل يحتجون بأن الجبلين ممتدان مع مجال التوسعة وأن التوسعة لم تخرج عن مجال ما بين الصفا والمروة.
ومن المستغرب قول الشيخ في هذه الفتوى إنه لم يقل أحد أن السعي لا يكون إلا بين الصفا والمروة ؛ مع أن الإمام الشافعي وأكابر أصحابه صرحوا بأن السعي لا يكون إلا في موضعه المعروف .
وبحثوا في ترخيص الشافعي في الالتواء اليسير ، ورجح بعضهم أن ذلك الالتواء إنما هو في داخل المسعى لا في خارجه.
وحكى الرملي الشافعي الإجماع على أن السعي لا يكون إلا في موضعه المعروف .
وقال إمام الحرمين في نهاية المطلب : موضع السعي معروف لا يتعدى.
(ينظر نهاية المطلب لإمام الحرمين 304/4 والمجموع للنووي 76/8 ونهاية المحتاج للرملي 291/3)
وقد حدد العلماء كالفاكهي وغيره عرض المسعى بأنه خمسة وثلاثون ذراعا ، وبعضهم يقول خمسة وثلاثون ذراعا ونصف.
وقد أثار كلام للأزرقي في أخبار مكة(78/2) - عند حديثه عن توسعة المهدي للمسجد الحرام- إشكالا كبيرا لأنه أوهم أن المهدي حوّل المسعى عن مجراه لأنه هدم دورا وجعل المسعى مكانها .
وقد أشار لهذا الإشكال أبو الطيب المكي في شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام (424/1)
وقال القطب الحنفي معلقا على كلام الأزرقي الذي أثار الإشكال : وههنا إشكال عظيم ، وهو أن السعي بين الصفا والمروة من الأمور التعبدية في ذلك المكان المخصوص ، وعلى ما ذكر الثقات فقد أدخل ذلك المسعى في الحرم الشريف ، وحول ذلك المسعى إلى دار ابن عباد ، فكيف يصح السعي فيه وقد حول عن محله؟!.
ثم أجاب قائلا:
ولعل الجواب أن المسعى كان عريضا وبنيت تلك الدور بعد ذلك في عرض المسعى فهدمها المهدي وأدخل بعضها في المسجد الحرام وترك البعض ، ولم يحول تحويلا كليا وإلا لأنكره علماء الدين من الأئمة المجتهدين .انتهى . نقله ابن عابدين في منحة الخالق على البحر الرائق (359/2)
ويؤيد هذا الجواب قول ابن قتيبة الدينوري في المعارف نقلا عن الأعمش عن مجاهد أن المسعى ما بين دار عباد إلى بئر ابن مطعم ولكن الناس أخفوه بالبناء . (المعارف لابن قتيبة (560/1)
فقد استفيد من هذا الكلام أن بعض المسعى كان مخفى بالبناء في زمن مجاهد ، وقد توفي مجاهد رحمه الله تعالى بمكة سنة 103 أي قبل توسعة المهدي التي هدم فيها الدور بأربع وستين سنة ، فلم لا تكون الدور التي هدم المهدي هي التي كانت تخفي بعض المسعى في زمن مجاهد؟.
هذا وقد صدرت قرارت وفتاوى عن مفتين من بينهم مفتي المملكة السعودية أواخر القرن الماضي وعن لجان من علماء الحرم شكلت لدراسة الموضوع تنص على عدم صحة الخروج عن مسامتة المسعى عرضا وعلى أن مكان السعي تعبدي لا يجوز تغييره .
ويمكن الرجوع إلى تلك الفتاوي وما تعلق بها من بحوث في كتاب المباحث المفيدة للحوسني وغيره من الكتب المطبوعة التي ألفت في موضوع المسعى .
هذا كلام علماء المسلمين وتابعيهم قديما وحديثا بمجرد الإشارة طلبا للاختصار.
وأما استدلال الشيخ حفظه الله تعالى ببيت أبي طالب فهو مبني على أن إساف ونائلة كانا في المسعى في العهد النبوي . وهذا مشكل ؛ لإجماع المؤرخين على أن إساف ونائلة نقلهما قصي من الصفا والمروة إلى موضع زمزم ، وقيل إن أحدهما جعل بلصق الكعبة ، وعلى كل حال لم يبقيا على الصفا والمروة إلى عهد الإسلام قطعا.
وأما قوله إن المسعى كانت فيه سوق فلا تظهر فيه حجة أيضا ؛ لأن كلام العلماء يفيد أن السوق كانت بحذاء المسعى لا في وسطه ؛ قال العمراني في البيان : ويسعى في موضع السعي ؛لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل من الصفا مشى ، فلما انصبت قدماه في بطن الوادي سعى سعيا شديدا وإنما فعل ذلك لأنه كان بحذاء السوق ، وقد كانت قريش قعدت له لتنظر كيف يسعى فسعى سعيا شدديدا إلى الموضع الذي غاب عنهم. (306/4)
فليتأمل قوله "بحذاء السوق"
ولو فرضنا أن منازل الأشعريين والسوق كانت في وسط المسعى فهذا إنما يقتضي عدم استقامة خط السعي بين الجبلين لا الخروج عن مجالهما بالكلية .
وقول الشيخ حفظه الله تعالى إن المسعى ليس من الشعائر واستدلاله بالآية على ذلك يحتاج إلى توضيح ؛ فإذا كان مراده به أن النسك متعلق بنفس الجبلين فهو مردود بإجماع الأئمة الأربعة على أن صعود الجبلين ليس من واجبات السعي ولا من شروطه ، بل هو إما سنة أو مستحب ، وإذا كان مراده به أن الآية تدل على أن السعي لا يشترط كونه بين الجبلين فهو مخالف لفعل النبي صلى الله عليه وسلم المبين للآية ، ولتصريح عائشة رضي الله عنها بالبينية في تعليقها على الآية في ما جرى بينها وبين ابن أختها عروة بن الزبير رحمه الله تعالى .
والخلاصة أن ما سمعنا في هذه الفتوى لم يسبق إليه الشيخ حفظه الله تعالى حسب ما اطلعتُ عليه .
وإجماع المسلمين قولا وفعلا يخالفه .
ولعل للشيخ مستندا فيها لم يرد ذكره في هذا المقطع.
والعلم عند الله تعالى.