السيد ولد أباه يكتب عن قيادة المرأة للسيارة ـ مقال

أحد, 01/10/2017 - 23:00

سياقة المرأة: رمزية التحول ـ صحيفة الاتحاد الاماراتية

من المثير للغرابة أن الأوساط التي كانت تتهجم على السعودية في منعها قيادة المرأة للسيارات هي نفسها التي تقلل اليوم من القرار الشجاع الذي أخذه الملك سلمان لتمكين المرأة من هذا الحق الذي لم تكن الموانع الشرعية هي التي تحول دونه، بل العائق هو الأعراف الاجتماعية في بلد محافظ كانت الدولة هي دوماً قاطرة التحديث فيه.

في الستينيات من القرن الماضي أقر الملك الراحل فيصل تعليم البنات الذي كان قراراً شجاعاً أهّل المرأة السعودية للاندماج في الإدارة وسوق العمل بحيث اقتحمت كل قطاعات الوظيفة العمومية وأبرزت قدرات واسعة في العمل الخاص.

لقد تسنى لي التعرف على عدد كبير من المثقفات السعوديات في السنوات الأخيرة، لمست فيهن الإعداد العلمي الجيد والمتابعة الفكرية الرصينة والانفتاح القوي على العالم، وقد اعتبرت أن الوقت قد حان لتبوئهن المكانة المستحقة في مركز السلطة والقرار، وهو ما تبدو بشائره في الخطة الطموحة التي أقرتها الحكومة العام الماضي (خطة 2030).

ومن هنا يبدو قرار تمكين المرأة من حق قيادة السيارة أكثر من مجرد إجراء إداري عادي، بل هو إيحاء رمزي بتغير نوعي في التعامل مع ملفات اجتماعية حيوية تتقاطع مع حقوق المرأة ودورها في عملية التنمية الوطنية.

وفي هذا المنظور، نشير مع الفيلسوف «رجيس دوبريه» مؤسس «علم المديولوجيا» إلى أن وسائط النقل والاتصال ليست مجرد أدوات تقنية محايدة، بل لها تأثير محدد وحاسم على طبيعة السياقات الثقافية والاجتماعية. وإذا كان العالم الفيزيائي الشهير «فرانسيس بيكون» قد قال في بدايات العصور الحديثة إن الإنسانية قد تغيرت جوهرياً من جراء ثلاثة اكتشافات كبرى هي المطبعة والبارود والبوصلة، فإن السيارة لا تقل أهمية عن هذه الاكتشافات إلى حد أن الناقد الأدبي المعروف «رولان بارت» شبّه السيارات بـ«الكاتدرائيات القوطية» من حيث السحر الأسطوري معتبراً أن «عالم السيارات» هو الأفق الأسطوري للمجتمعات المعاصرة.

فالسيارة كرست مفهوماً جديداً للزمان والمكان والحركة، فألغت مقاييس الفضاء التقليدي المغلق والجماعي وقواعد ومعايير الانتقال المضبوطة اجتماعياً، ودشنت مفهوم الحركة الحرة والفضاء الفردي الحميمي والزمن المفتوح، ومن هنا الطابع الثوري لهذا الاكتشاف الخطير في تاريخ البشرية. وهكذا يميز «رجيس دوبريه» بين السيارة الشخصية التي ترمز للقيم الليبرالية الحديثة في معاني الرفاهية الشخصية والتنافسية والاختيار الفردي الحر، وقطار السكة الحديدية الذي يرمز للقيم الاجتماعية الديمقراطية في معاني التسيير الجماعي والرقابة العمومية، ودراجة العجلتين التي ترمز لمعاني التحرر الفردي والشخصنة المتمردة.

ومع أن عموم البلدان العربية والإسلامية قد منحت المرأة حق قيادة السيارة منذ فترات طويلة إلا أن هذا الحق ظل مقيداً بالضوابط الاجتماعية التقليدية باعتبار ارتباطه بحركية التحرر الفردي التي تسارعت في السنوات الأخيرة على رغم موجة التطرّف الديني والأصولية المحافظة التي هي في عمقها ردة فعل على تحول المجتمع تحت تأثير الأنماط الاستهلاكية الجديدة والثورة التقنية الاتصالية الراهنة التي غيرت جذرياً طبيعة علاقة الفرد بمحيطه العائلي والاجتماعي.

ومن هنا يمكن القول إن قرار تمكين المرأة من حق قيادة السيارة يندرج في سياق مواكبة وتأطير هذه التحولات الهائلة التي عرفها المجتمع السعودي في الأعوام الأخيرة، باعتباره من أكثر المجتمعات العربية شبابية ونشاطاً وانفتاحاً على العالم، وقد أصبحت فيه المرأة تنافس الرجل في كل مناحي الدراسة والعمل. إن هذا الإجراء يندرج إذن في مسار الإصلاحات الاجتماعية المتواصلة في السعودية، التي كان من أهمها تمثيل المرأة في مجلس الشورى والمجالس البلدية منذ 2011، ومن هنا قوة هذا القرار الرمزية والصدى الاستثنائي الذي خلفه في الشارع السعودي.

أحد الفقهاء الموريتانيين البارزين سئل في مطلع السبعينيات عن جواز خروج المرأة للعمل، فأجاب بأن السؤال لم يعد مطروحاً لأن المرأة خرجت فعلًا، فالمطلوب من الدين ليس حمل الناس على الجمود وإنما مواكبة تحولاتهم وتأطيرها بالتوجيه المطلوب وبروح تسامح الإسلام ومرونته، وذلك ما كررته إحدى المثقفات السعوديات في تعليقها على القرار الأخير رافضة خط أولئك المتشددين الذين يخيرون المرأة بين الدين والحياة في الوقت الذي تحرص هي فيه على اختيارهما معاً.

-----------------

* أكاديمي موريتاني

تصفح أيضا...