من النادر ان ينبثق صوغ الاجابات الدقيقة والرؤية الاستراتيجية العميقة من شخص يَمْخُرُ عباب المواجهة في عمق المدارات المحمومة والفعل السياسي الميداني وحقائقه المرة العنيدة.
وأندر من ذلك ان يعيش زهرة شبابه إما في السجن أو مهددا به أو ملاحقا بأنياب العذاب وسكاكينه الصدئة التي أُغمدت في الطري من جسده عشرات المرات، دون ان يحمل الخوف أو السجن في نفسه، ودون ان ينهار في لحظات التنازع بين قوى الموت والحياة والشموخ والتخاذل والأنانية ورُهاب المخبرين.. وواصل صموده البهيج متدرجا نحو عوالي مراتبه..
وتشتد ندرة من فُتِحتْ لهم أبواب الثراء وجمع المال العام وكنزه ، وغادروا دون بيت أو حتى قطعة ارض... ومَن كونتهم المعاهد الكولونيالية لينشروا مِطواعين ثقافتها بهدوء في جسد وشرايين مستعمراتها السابقة، وانقضوا بعد عودتهم كالصقور في وجهها غير هيابين ولا خجلين..يغَنّون بلغتهم للحرية وصدق الانتماء، ونغمات وآمال وحكايات القوم البسطاء..
ذلك هو مثال الراحل الذي ظل ( يملأ الأرض والسماء دوياً** كلما أطبقت عليه الجراح) ودائم الحضور حتى وهو مكبل اليدين في سجون: تيشيت، تجكجة، لعيون، كيهيدي.. او يواجه الكرباج وآلة ( الجاكوار) في معتقلات: بيله، جيني، نواجلال، اجريدة، اقبية الامن السرية..بما شكلته محاكماته من كلفة وهاجس مرَّ المذاق لسجانيه، وبقيت تناوير أزهاره دائمة الحضور في جميع منعطفات المشهد السياسي الوطني الكبرى واستمر قلمه المغموس في صمغ سيال الصحراء وعراجين نخيلها أهم مراجع الفكر السياسي التي أبى دوما صاحبها ان تُسرق منه استراتيجياته وأفقه المبدئي والنضالي المصمم او يُفرض هو نفسه وتياره على ممارسة الإنتهازية واحتراف (بلتيكْ) التي ابتلعت وهادها الشوكية الأقدام وقضت على كثير من المُهج والأحلام .
وكما واجه غول السلطة وغطرستها واجه الراحل حدة المحيط وتنطع بعضه وصبيانة بعضه الآخر، حدةٌ كانت تشتد وطأتها كلما اشتدت وطأة الخيبات وتكررت محنها في السنوات العجاف الاخيرة.. وظلت تعلوا به سجف الحلم ويمارس تصامم الجياد وصفحهم ويفضّل التعامل بهدوء وروية مع الظواهر وما خلفت تمهيدا لقراءة الجميع بأفضل صيغ العقل والحكمة التي وهبه الله كثيرا منها..
رحيل الاستاذ محمد يحظيه خسارة لموريتانيا والوطن العربي وخسارة للطبقة السياسية جميعا وان كانت درجات الخسارة تتفاوت.
علق أحد المدونين النابهين على صورة لبعض رفاق الراحل وتلامذته ينتظرون خروج جثمانه في المستشفى بعبارة ( في العراء) وقد صدق ورب الكعبة اذ انقشعت عنهم جميعا مظلة فكرية وسياسية ما يطاولها قليل، وزال عنهم دفء كانوا يهجعون تحت فيئه السميك وغاض نهر ظلوا يسائلونه و ظل لهم دائم الجريان.
إنَّا لله وإنا إليه راجعون