في الذاكرة،
1- 7- 2020 : الذكرى ال50
لرحيل الأخ سيدي محمد ولد سميدع، رحمه الله.
بهذه المناسبة العظيمة، أعود بكم إلى تدوينة كتبتها يوم 20 -10 - 2019 في دكار. وأسمح لنفسي ب"تدويرها" لأضيف بعض الذكريات المهمة، وأفتح نقاشا جديدا حول شخصية المناضل والقائد الملهم، سيدي محمد ولد سميدع، تغمده الله بواسع رحمته.
بادرت باغتنام فرصة وجودي بدكار لأسافر عبر الزمن. فاتجهت إلى جامعة دكار (Fann)، جامعة الشيخ أنتا اديوب الحالية، لتطير بي مركبة التفكير والذكريات إلى عهد الشباب والصبا. دخلت من البوابة الرئيسية للحي الفاتح على شارع “واكام” و وقفت أمام المبنى -أ- Pavillon A صعدتُ مع السلم حتى الطابق الثاني واتجهت صوب الغرفة A276.
هنا كنت أسكن 1968-1970 و فيها معي الأخ سيدي محمد ولد سميدع حتى تاريخ رحيله تغمده الله برحمته الواسعة. كنت طالبا في كلية الطب وهو في كلية الآداب.. وقفت حائرا أمام زحمة المشاعر والأحاسيس والذكريات. وأكثر ما هالني في اللحظة واستحوذ علي هو "سميدع" : شخصيته الفذة، حياته القصيرة سنّا والطويلة معنىً، إرادته الفولاذية، جديته الخارقة، معيشته الزاهدة، سلوكه الفاضل، نشاطه الكثيف، فكره الخصب، معشره الحلو.. كان قليل الأكل والنوم، متواضعا، متقشفا، ملتزما، صارما مع نفسه، منضبطا. والغريب في الأمر أنه كان مع ذلك كله كاتبا و أديبًا.. مولعٌ بالشعر و الأدب بشقيه الفصيح والحساني.
أذكر أنه ملأ جدران الغرفة بصور "الأقصى" و "كاسترو" و "اتشي كَفيرا" و "نايف حواتمه" و "جورج حبش" .. وكان كثير المطالعة والقراءة ومعه عشرات الكتب والجرائد والمجلات العربية.. يكره اللغة الفرنسية ولا ينطق بها إلاّ لضرورة قصوى.. ولا يخاطبك إلاّ ب"الأخ" إلى درجة أننا كنا نسميه "الأخ" .
وكانت الغرفة A 276 ورشة عمل و مقرا رئيسيا لتحرير وطباعة وسحب وترجمة جريدة "الكفاح". ويمكنني القول بأنني لم أر شخصا واحدا في دكار على الأقل يتعاون مع الأخ "سميدع" في إنجاز ذلك العمل الجبار. فهو المحرر والمترجم والطابع والساحب رغم ضعف بنيته و مرضه. لقد شخص الأطباء في مشفى "لدانتك" بدكار إصابته بتشمع الكبد قبل ذلك بسنة. وكانت أعراض المرض بادية على جسمه النحيل. شخصيا، كنت أحترمه وأشفق عليه، ولكني - مع الأسف - لم أكن على مستواه في الوعي و الفهم.
ورغم أني كنت أتقاسم مع "سميدع" نفس الغرفة، فإني لم أكن على اطلاع بما يقوم به من نشاط وعمل.. أذكر أنه طلب مني مرة كتابة مقال عن "المرأة في المجتمع الموريتاني ".. كتبت المقال طبقا لتوجيهاته، ولكنه لم يرضيه و أضاف له فقرات تشير إلى "الثالوث" المسلط على المرأة بحسب قوله: الامبريالية والإقطاعية والزوج.. وكلفني ذات مرة بمهمة نقل كمية من "الكفاح" وتسليمها لأحد أصدقائه في انواكشوط.. نسيت من هو .. وهنا أعود قليلا إلى الوراء لأقول إن همة "الأخ" لا حدود لها.. عام 1967، كنا معا في ثانوية نواكشوط. ذهب و اتصل بجميع أساتذة العربية و طلب منهم الاطلاع على نتائج الامتحانات والتمرينات الفصلية (مارس) لمعرفة المتفوقين. وعلى هذا الأساس جمع فريقا من 7 أشخاص. وكلفنا بأن نكون لجنة تحرير "جريدة" يدوية بعنوان "صفحات مدرسية". نسيت أعضاء الفريق باستثناء الرئيس "سميدع" ومدير التحرير ؛ إسمه "الشيخ ولد عبد العزيز"، كان هو الأقوى في اللغة والنحو ( و له مني تحية حب و تقدير إذا كان حيا). وسبحان الله العظيم، وجدت نفس الفكرة - فكرة الجريدة اليدوية - وعشت نفس التجربة بعد ذلك 1975 مع قائد آخر، هو محمدن ولد اشدو حفظه الله. كنا نعيش في ظل إقامة جبرية وسرية تامة فرضها الحزب ونصدر كل يوم "ورَيقات" جميلة بعنوان : "الأسرة الثورية".
واليوم بحلول الذكرى ال50 لرحيل "الأخ" .. أود إثارة موضوع مهم قد يفاجئ الكثيرين ؛ و هو أنّ "سميدع" رحمه الله توفى قبل أن يستقر على إيديولوجيا محددة أو يعتنق فكرا محددا. رحل و هو جذوة .. شهابٌ يتوقد من شجرة ثورية تضيئ المكان والزمان، بلا حطب محدد ولا وقود فكري معيّن. كان في الأساس - وطنيا - متمردا" - "ثائرا" - "عروبيا" من جملة "اليسار العربي" بمعناه الواسع القومي والديمقراطي؛ و لم يكن "ماركسيا" خالصا ولا "اتروتسكيا" خالصا ولا "قوميا عربيا" محضا، بل خليطٌ من ذاك كله. وكان يميل إلى "الثورة المباشرة" - جماعات الطوباماروس les Tupamaros - من أمثال "اتشي گفارا" و رجال "مونكادا" و هم "فيدل كاسترو" و رفاقه. وكان شديد الإعجاب بثوار فلسطين "نايف حواتمه" و "جورج حبش" و "أبو جهاد".. وتأتيه صحيفتا "الحرية" و"الثورة" بانتظام لا أدري من أين؟ أذكر أنه كان على صلة بطيف واسع من الناس. كنت أرى أحمد باب ولد أحمد مسكه رحمه الله يدخل عليه "وصمبا بالدي" (طالب من غينيا كوناكري هو رئيس اتحاد الطلاب)و يحي ولد الحسن.. إلاّ أن أقرب الناس إليه وأكثرهم تواصلا معه وانسجاما كان بدن ولد عابدين حفظه الله. ذلكم هو "سميدع " كما عرفته. و قد رحل قبل أن ينتهي مخاضه الفكري.
ولذا، أقول دائما إن الحركة الوطنية الديمقراطية (mnd) انتزعت سميدع و ملكته "بالحيّازة" اعتمادا على عمله ونشاطه وحيويته دون انتمائه الأيديولوجي. فهو لم يعتنق الفكر الماركسي الذي تأسس به و عليه حزب "الكادحين" بعد رحيله؛ إلاّ أنّ "ماكينة" الكادحين الإعلامية القوية استطاعت أن تضع "ميسمها" الخاص عليه بعد رحيله من خلال المرثية العصماء التي كتبها الشاعر أحمدو ولد عبد القادر حفظه الله وشفاه التي ضمنها (ربما) عمدًا "والرزء أثقل من أجبال تيشانا" (سلسلة جبلية في الصين) قبل أن تتغير "تيشانا إلى "تاگانا"، و التغني بأمجاد الشاب الراحل و بطولاته ورمزيته في أناشيد الحزب لإرساء فكرة انتماء سميدع للكادحين إيديولوجيا .. هذا بالإضافة إلى دور "صيحة المظلوم" ومساهمتها في غرس الصورة "السميدعية" الكادحة في أذهان الشباب بإصدار كتيّب رائع عن حياته كل عام ملحقا بعدد شهر يناير ... لولا ذلك المجهود الإعلامي الضخم لكان "سميدع" على حقيقته تراثا موريتانيا مشتركا لكل فصائل الحركة الوطنية المطالبة بالاستقلال والتعريب والحريات ودعم فلسطين والحركات التحررية والثورية في العالم..
رحم الله "الأخ" سيدي محمد ولد سميدع بواسع رحمته.