حكايات المجد الضائع عند الشيخ ولد بلعمش في رثائيات المُدُن...قراءة وإثارة (2/2) / إبراهيم الدويري

خميس, 10/12/2020 - 11:31

تيشيت بين الترحاب وتجدُّدِ العِتاب
حين حاور الراحل الشيخ بلعمش تيشيت أنطقها تسامحا وغفرانا للزاهدين فيها، بل زادت على ذلك بالتزين والتعطر وتقسيم الأنخاب على الجميع:
تيشيتُ قاسَمَتِ القطينَ شبابَها.... وعلى الأحبَّةِ وزَّعت أنْخابَها
غفرت لكل العاشقين ذنوبهم... عند اللقاءِ و عطَّرتْ أثوابَها.

ولم تكتف بذلك بل:
فتحتْ لنا سِفْرَ الزمانِ و أسفرتْ... عن وجهِها للناظرينَ كتابهَا
ورغم هذا الاحتفاء إلا أنها ثمة مخطوطات تعاتب لامسيها، وتجدد لهم العتاب كل حين، وتسألهم الترفق بها فقد طال الزمان والهجران:
ورق يعاتب لامسيهِ بحرقةٍ... و تُجدِّد الأيام فيه عتابَها
هذي دفاترُ من مضَى فترفَّقُوا... بالذكرياتِ ورافقوا أصحابَها!
فأصحاب هذه الذكريات العطرة يستحقُّون الوفاء لأنهم:
لما أناخوا بالشعاب ركابَهم.... حبستْ بهاَ كلُّ العلوم ركابَها
فسَلُوا الربى أسَلتْ بنَا أربَابَها... وأجبْ فؤادِي بالدُّموعِ جوابَها.

وبقية القصيدة التيشيتية يستحي التعليق أن يكون واسطة بينها وبين القارئ:
أيكونُ ما لَعبتْ يدُ الدنيا بهِ... حتى تُساعِدَ في الأسَى أتْرابَها
طللٌ بروح قصيدة هل تسمعو... نَ خطابَها أو تلمسون خضابَها
ذرفت بهاَ الألحان دمعَ سهادِنا... فكأنَّما قتلتْ به زريابَها
و تلوح مئذنة العروجِ فعرِّجُوا... يا زائرينَ و قبِّلوا أعتابَها
هل كان صدعًا أم فؤادَ شريفةٍ... غرستْ به كل الحروبِ حرابَها
و تقولُ لي قامتْ فقدْ سقط النَّصِيــــ... ـــفُ وأصلحتْ من بعدِ ذاكَ نقابَها
تيشيتُ أيتُهَا الأسيرةُ غالِبي....كلُّ القيودِ فقدْ عرفتِ غِلابَها
و سألتُها أين الشريفُ و ركبُه... فتأوَّهت و انتابَني ما انتَابَها
يا طيفَ عبد المومن النِّسبُ التي أبقيتَ بعدكَ حقَّقتْ أنسابَها
الذكرُ والحَسَنُ الجميلُ نصيبُهم.... فبذاكَ جاوزت الديارُ نصابَها
تيشيت ما غِبْنا فلا تتغيبى... ذكرى وحاضرةً أبيتُ خرابَها
ولنا مع التاريخ بعدك موعدٌ... تدني ولاتةُ عنده أحبابَها
من بعدما كل العيون قريرةٌ... وادانُ يلبس بالرِّضَى أهدابَها
شنقيط تقرئكِ السلام وعهدُنا....بك تعشقين نخيلها و ترابَها
و زلالها و ظلالها و جمالَها... و رمالَها و رِحَالها و رحابَها
ولقد حفظتِ لها الوداد رسائلا ...ما كان أنبل من ألان صلابَها
أسفِي عويصات العلوم تمنَّعت..... و لقد ألفنا يازمانُ طلابَها
و كذاك يا عمري الجراح فهذه.... حقبٌ تخبئ للكرام صعابَها.

ولاته: رحيل وعويل
نادت ولاتة قريض الشيخ وحمَّلته بثّها وحزنَها على عهدها الزاهر بالعلوم والفنون والحضارة الرصينة، وكلّفته شكواها بحسرة شديدة وبيان موجع، فكان خيرَ معبِّر عن مواجعها، وأبلغَ ناطقٍ بسفرها المجيد علما وأدبا وحضارةً.. فأصغِ له، وهو يشدو:
 قالت ولاتةُ للحروف أبيني .... بثي شكاتِي للورى وشجوني
لا تحسبي الصبر الجميل سعادةً .... فلربَّ مشتاق شدا بلُحون
ما زلت أنزف يا بَنيَّ فلا أخ .... يحنو وعمر الجرح بضعُ قرونِ

فكان الشيخُ لسانَها المبلِّغَ شكواها، وصوتها النائح بصدقٍ على فردوسها المندثر وشعاعها المتبدّد كشعاع الشمس حين يهمّ المرء بإمساكه:
أبكي السراة الأولين فهذه .... حسراتُ أيامي و تلك عيوني
لكأنما البكَّايُ ذاتَ عشية .... أبكتهُ أحزاني فكانَ قريني
و أنا على الجوزاء لا قمرٌ دنا .... منِّي و لا أرضٌ تدور بدوني
كتبت حِكاياتُ الزمان قصيدتي .... فترى خُطى ابنِ بَطُوطَةٍ بِحُزوني
وأنا التي لولاي ما رسم الهوى .... نجما لكل مدلَّه محزونِ
الشمس أختي لا يزال شروقنا .... نورا على الدنيا و عزَّ جبين
يا راسمين على الجدار زخارفي .... يا كاتبينَ هوامشي ومتوني ؟
إني لأذكركمْ فتورق دمعةٌ ....  فوق الخدود و يستفيقُ حنيني
لو تعرفون مواجعي أو تبصرو...نَ مدامعي أو تَسمعون ظُنُوني!
ولا يزال النوح السرديُّ آسرا بجماله وألَمِه...:
الحبر ينشف لا دواة تمدُّه .... و الطرسُ يشفق من يد المفتون
من بعدما كان الولاتِيُ آية .... رحلاتِ تمكينٍ و صدق يقينِ
الراحلون على الغياب تعودوا .... و تعودتْ هوجَ الرياح سفيني

الأندلس بين ليل ابن وضحى ابن رشد:
أشرت بدءا إلى أنّ شاعرنا لم تشغله أنَّات الحاضر عن إشراقات الماضي وإن كانت هي الأخرى محفوفة بأنّات وآهاتٍ.. ومن ذلك بكاؤه درَّةَ بني الأحمر التي كانت واسطة عقد الحواضر في الغرب الإسلامي وأعظم جامعاتها عراقة وتفرُّدا..
سلِّمْ علَى غرناطة يا جعفرُ *** فلنا هُنالك ما نُحِبُّ ونذكرُ
سلِّمْ عليها و اتْلُ من نبإ الهوى *** ما شئتَ، قدْ يعفو الحبيبُ و يغفِرُ
سرْ في الدروبِ وقلْ لها مُتحسِّرا *** إنَّ الذينَ تيتَّموا لمْ يَكْبُروا
ويستعيد ذكرَ أبي البقاء الرنديّ الذي اقترن اسمه برثاء الأندلس فهو أيقونة الحزن على تلك الجنان المسلوبة:
سلِّمْ على الرنديِّ و ابكِ بكاءَهُ *** واصلبْ فؤادِي فالكرامُ تنَكَّروا
كل الحروفِ مُوشَّحاتٌ بالأسَى *** فقصائد الحمراء دمعٌ أحمَرُ
أوتارُ زريابَ انتَحارُ صَبَابةٍ *** يا حسرةَ الأوتارِ إذْ تَتَوَتَّرُ ؟!
وأنا أسافر كالطريد كأنما *** قدر الصقور من الليالي مهجَرُ؟
أتلو على السفح الحزين قصيدتي *** نخلاً تغرَّبَ أو شذًى يَتحسَّر ُ
يا ليلُ لا تزد الجراحَ على فَتًى *** ما زال جرح القدس فيهِ يُكبِّرُ
هذِي عمائمُ عبد شمسٍ نُكِّستْ *** خوفًا وأسياف الطوائف تقطُر؟!
هلْ يُسْلِمُ الأفق الرحيبُ نجومَه * هل يذبُل الغصن الرطيب فَيُكْسَرُ؟!
الأرض تنقص فالضياع رفيقنا *** وخرائط الأحزان لا تتغيَّرُ
ليلُ ابنِ حزم لا صباحَ لدمعِه *** وضُحى ابْنِ رشدٍ في الزمان تفكُّرُ
لا أنسَ منْ ولادةٍ نظــراتها *** حين ابنُ زيدون الفتى المُتَبختِرُ
وأنا هنالك لوْ ترونَ جليسُهم *** إنَّ القلوب مع الغياب لتحضرُ
وبكيت مُلكاً في الغرامِ أضعته *** فَلكمْ بكَى عزَّ القصورِ مُقصِّرُ
وبكيت أندلسا وطارقَ والأُلَى * حرقوا السفين على الضفاف لِيعْبُروا
ومن الطريف أن الشيخ كتب هذه البكائية على بحرِ وروِيِّ قصيدةٍ لابن شهيد في رثاء قرطبة وهو غير عالم بها فيما أخبرني، وأخبر رحمه الله أن علاقته بالأندلس قديمة جدا:
ربّاه ما خفت الضياء فهذه ــــــــــ خيل الفتوح ضوابح بالساحل
و جيوش أندلس تهنئ طارقا ـــــــــــ و الغافقيُّ يصدُّ ألف مقاتل
رحم الله الغافقي الذي كان يصد آلاف المقاتلين وبسبب استشهاده المبكر أعاد الفرنجة غزو الربوع وسملوا عيني تمبتكتو:
تُمْبُكْتُ كَمْ أَخْشَى عَلَيْكْ عَبَثَ الْحُرُوبِ بِمُقْلَتَيْكْ
 مَاذَا سَيَبْقَى للأساوِرِ دونَ فِتْنَةِ مِعْصَمَيْكْ ؟
مَاذَا سَيَرْوِي الطِّينُ إنْ سَارَتْ جَحَافِلُهُمْ إِلَيْكْ؟
 أَنا أَفْهَمُ الْعُشَّاقَ وَ الظَّمَأَ القَديم َلِنَاظِرَيْكْ
لكنك القَدَحُ العَتِيقُ وَ سَقْطَةٌ تَقْضِي عَلَيْكْ 
 مَنْ ذَا سَيُنْقِذُ شَيْخَةً مِنْ بَطْشِ عُرْوَةَ وَالسُّلَيْكْ ؟
 هَذَا تُراث الأرضِ مُشْتاقٌ لِحُظْوَتِهِ لَدَيْكْ 
 وَ يَقولُ لا تَتَغَيَّبي فَالشمسُ تطلعُ مِنْ يَدَيْكْ
 وصدَى الْحُداةِ يُلَوِّنُ الصَّحراءَ مِنْ طَلْحٍ وَأَيْكْ
 وَ عَلى اللثامِ قَصيدةٌ كُتِبَتْ تَؤبِّنُ رِحْلَتَيْكْ
 هذا نَشيدٌ أوَّلٌ فَمتىَ يُلامِسُ مسمَعيْكْ ؟
 بَعَثَتْهُ قافلةٌ تُحاصرُها الحدودُ بِجَانبيْكْ
 وَ يَفيض حَبْرُ الكاتبينَ فَهَلْ سَيَمْلأُ دفَّتَيْكْ؟

وبعد فهذا بابٌ جميل من أبواب الأدب تفرّد به الشاعر المبدع، وهو حريٌّ بالقراءة والإثارة، كغيره من أبواب تفرُّد الشيخ الشاب الذي ودّعنا فجأة فغادر ممتطيا "صهوات عبقر" تاركا أدبا غضّا طريا، وشعرا رائقا، وجرحا غائرا وذكرا بالمكرمات خالدا.. وقد أحسن الشاعر محمد الحافظ في توديعه يوم قال:
وفي ذمّة الله انبلاجة شارق... بها كان في أجياد عبقرَ عرَّسا
تفرَّستُ فيه الألمعيَّة يافعا... وقد كان فيه الموت أدهى نفرّسا
فالسلام عليه يوم ولد ويوم مات ويوم يُبعث حيّا.

تصفح أيضا...