ثمانون سنة تقريباً مرت على صدور كتاب طه حسين الشهير «مستقبل الثقافة في مصر» الذي كان أول مقاربة نسقية جريئة للسؤال حول هوية «الأمة المصرية» الجديدة إثر قيام الدولة «المستقلة». والمعروف أن إجابة طه حسين كانت واضحة حول تفضيل الخيار الأوروبي الذي اعتبره الأفق الوحيد للنهوض والتحديث، وأن هوية مصر غربية تاريخياً وحضارياً ولا شيء يربطها بالشرق.
عندما أصدر طه حسين كتابه كان مشروع استعادة «الخلافة الإسلامية» حاضراً بقوة من خلال الفكر الإخواني، كما كان المشروع القومي العروبي قد بدأ الانتشار قبل أن يسيطر كلياً بعد قيام الثورة الناصرية عام 1952 التي كرست فكرة قيادة مصر للنظام العربي من منطلق هويتها المشرقية كأساس لوجودها التاريخي ودورها الحضاري والاستراتيجي.
ومع أن مشروع طه حسين انهار كلياً وتخلى عنه عملياً صاحبه في السنوات الأخيرة من عمره، فإن الإشكال الذي بلوره لا يزال مطروحاً في عمقه الفكري والاستراتيجي، ليس بمعنى الخيار الأيديولوجي أو التموقع السياسي أو التخلي عن الانتماء القومي، وإنما طرح السؤال الأكثر جذرية المتعلق بطبيعة الهوية العربية الإسلامية: هل هي غربية المنشأ والوشائج أم شرقية الأصول والروابط؟ أو بعبارة أخرى: هل نحن في بنياتنا العميقة من مكونات هذا النسيج التوحيدي المتوسطي أم نحن شرقيون وبالتالي أقرب للحضارات الصينية والهندية بتراثها البوذي الكونفوشيوسي وتقاليدها الفكرية والقيمية؟
من الواضح أن التوجه الغالب على الفكر العربي الحديث هو تأكيد التغاير مع الغرب ثقافة ومجالاً استراتيجياً، بينما تكرس في المفهوم الحديث للغرب وحدة التقليد اليهودي المسيحي مقابل الإسلام، وقد ذهب اتجاه كامل في الفكر العربي المعاصر تزعمه «أنور عبد الملك» لتأكيد الهوية الشرقية للحضارة الغربية الإسلامية، أي انتماءها إلى الشرق الأقصى في تصوراته للوجود والقيم والذاتية الإنسانية.
الموضوع اليوم لم يعد مجرد جدل نظري أيديولوجي، بل هو رهان استراتيجي مستقبلي في مرحلة تعاني المنطقة العربية الإسلامية أزمة هوية عميقة متعددة الأوجه في الوقت الذي يشهد الغرب لأول مرةً منذ القرن السابع عشر أزمة هوية عميقة جراء تراجع موقعه في الخارطة العالمية التي تشهد عودة آسيوية قوية إلى الريادة الدولية.
ما لا يدركه الكثيرون أن ثنائية الشرق والغرب جديدة تعود إلى قرون ثلاثة فقط، فالغرب مفهوم حداثي اخترعه الفلاسفة والأدباء في عصور التنوير الأوروبي التي اخترعت أطروحة الجذور اليونانية الرومانية للحضارة الأوروبية الحديثة، مع العلم أن اليونان اعتبرت طيلة تاريخها القديم والوسيط إقليماً منتمياً للعالم الشرقي، كما أن الحقبة الرومانية تمحورت حول المجال الشرقي لهذه الإمبراطورية التي ورثت العالم اليوناني وورثت المدارس الشرقية في الإسكندرية وحران.. منذ إغلاق آخر مدرسة فلسفية يونانية عام 529 في عهد الإمبراطور جستنيان.
كما أن مفهوم «الشرق» اختراع أوروبي حديث يتأرجح بين التصور الجغرافي والمقاربة الثقافية الدينية، ولا يمكن وضع حدود موضوعية معرفية له.
الإشكال الجديد يتعلق بطبيعة الموقف المترتب على تحولين جوهريين عرفهما العالم في السنوات الأخيرة هما: انحسار مركزية الغرب في المنظومة الاقتصادية العالمية وبروز محاور آسيوية نشطة جاذبة أصبحت المستفيد الأول من حركيّة العولمة، بينما تشهد البلدان الغربية تصاعد النزعات الانكفائية الشعبوية المحتجة على التبادل التجاري الحر، وعجز الغرب الاستراتيجي عن إدارة الأزمات الدولية وفق آليات الردع والتدخل التي بلورها منذ نهاية الحربين العالميتين الأخيرتين.
ومن هنا تولّد السؤال الجديد حول هوية وتوجه المنطقة العربية الإسلامية الداخلة في مفهوم «الشرق الأوسط» بدلالته الواسعة (من موريتانيا إلى أفغانستان): هل لا تزال مصالح هذا العالم الأفرو آسيوي مع الغرب، بعد فشل المقاربات المتوسطية العديدة التي قدمت لدول شرق المتوسط العربية (بالإضافة إلى تركيا) وفشل المقاربات الأمنية الاستراتيجية الشرق أوسطية التي تقدمت بها الإدارات الأميركية المتعاقبة منذ بوش الأب إلى بوش الابن، أم أن المطلوب هو إحياء «مشروع باندونغ» بتكريس شراكة المنطقة الشرق أوسطية مع القوتين الآسيويتين الصاعدتين، الصين واليابان، بالإضافة إلى روسيا التي حسمت في عهد بوتين هويتها الشرقية في مقابل المشروع الغربي الأوربي القديم الذي استعاد بعض الحيوية بعد نهاية الحرب الباردة؟
ليس من السهل الرد على هذا السؤال، فإذا كان الغرب أقرب للنسيج الثقافي للحضارة الإسلامية، والذي نتداخل معه دينياً وقيمياً وتاريخياً (إلى حد أن عالم الإنتربولوجيا الفرنسي كلود لفي شتراوس قال إن الغربي لا يشعر بالغربة في الشرق الإسلامي على عكس الشرق الأقصى)، فإن الرهانات الاستراتيجية الحالية قد تقتضي التوجه شرقاً بحثاً عن أوراق توازن وحركة تتناسب مع تحولات الخارطة الدولية الجديدة، بما يعني خصوصاً الانفتاح على القوى الثلاث ذات العمق الديمغرافي والحضاري الإسلامي: روسيا والهند والصين.