لا ريب ولا شك أن زيارة الصالحين والعلماء العاملين محض خير وزيادة وبركة لفاعلها ، بها يستزيد الإنسان من الخير ويتعرف على كثير من التواضع ولين الجانب ونقاء السريرة وصفاء النفس.
كتب الله للعبد الفقير أن يكون محبا للصالحين، رحيما بهم، راغبا في زيارتهم والاستزادة مما حباهم الله به من مكانة رفيعة في العلم، ومن هؤلاء العلماء العاملين، العالم العلامة، العيلم النحرير، والعلم الشهير، بقية أولياء الله الصالحين، الشيخ محنض باب ولد امين حفظه الله ورعاه، وحقق له في الدارين غاية مناه، وكنت أسمع عنه كثيرا، وأرغب في زيارته، وأتشوق لها، ولم يقع هذا من فراغ، فكثيرا ما أسمع عنه القصص العجيبة، التي تدل على صلاحه وورعه وزهده، وخشيته وخوفه من الله عز وجل، وقد زادني في ذلك أحد الأحبة والأصدقاء الأخلاء الأوفياء، عندما حدثني عن مؤلفاته منذ زمن، أنظامه الرائقة العذبة السلسة، التي لا يمل منها، مع جزالة في الأسلوب ورصانة في الألفاظ قل أن توجد، وكنت أول ما حفظت منه:
فالشافعيون الهداة فضلة ** ما قد أبيح عندهم نجسة
وينبغي للمالكي أن يزيح ** ثيابه عن فضلات ما أبيح
فتعلقت بنظمه الموسوم ب"المباحث الفقهية"، وهو آنذاك لم يطبع، فأخذته صوتيا وكنت أستمع إليه دائما، إلى غير ذلك من أنظامه الرائعة الرائقة، التي حصلت على بعضها بفضل الله ومنه، فتعلقت به وأحببت زيارته، ولم أتمكن منها إلا في يوم ٣١ / ١٠ / ٢٠٢٠ مع أحد الأفاضل النادرين، وسيد السادات الغرر الشم العرانين بفضل الله وبفضله، رافقته في سفره تواضعا منه رفعه الله درجات عنده، وتقبل منه وأسبغ عليه من نعمه ظاهرة وباطنة، ولا زال بخير وعافية.
انطلقنا صباحا، ووصلناه في حدود الرابعة ودقائق قليلة ظهرا، التقينا بأحد التلاميذ والكل عرف بنفسه، لننتظر حتى نزوره، بعد ذلك بعشرين دقيقة التقينا به، ولما اقتربنا وجدتني أحق بقول العالم الشيخ العلامة أحمدو ولد أحمذي الحسني للشيخ أحمدو بنب:
إذا كان هم الناس قطع المفاوز ** إلى الشيخ قدما لاقتناء الجوائز
فحسبي وقصدي أن أفوز بنظرة ** إلى وجه مرضي لدى الله فائز
وكانت لحظة لا توصف، وكأنه يوم عيد بالنسبة لي، فلما رفعت بصري تلقاء وجهه اقشعر جلدي فما وقعت عيناي على شخص أبدًا يشبهه، رجل في زمان غير زمانه كأنه في زمن التابعين، ولو سمح لي أن أقول فيه ما قاله عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه في الربيع ابن خثيم المرادي أبو يزيد الثوري الكوفي نزيل الكوفة وأحد أصحاب ابن مسعود وإن كان الإسناد منقطعا، كما قال ذلك محقق كتاب البداية والنهاية لابن كثير يقول ابن مسعود في الربيع: (ما رأيتك إلا تذكرت المخبتين، ولو رآك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحبك).
سلمنا عليه وعرفنا بنفوسنا، ثم دعا لنا وكان ذلك في وقت وجيز جدا، ثم انطلقنا، وكان بودي لو طال الحديث لكوني جهزت بعض الاستشكالات على الشيخ في بعض المسائل والنوازل المستجدة، إلا أن التلميذ اعتذر بسبب الضغط على الشيخ لكثرة الزائرين، ورغم قصر الوقت إلا أننا لشوقه كنا نعده بالأيام والسنين والشهور، تلك الدقائق التي قضيناها لا يمكن وصفها، ففيها تعرفنا على شخصية نادرة الوجود
فعلا، رأيت علما وورعا وزهدا وخشية وتواضعا، رجل متبذّل متخشع متواضع، نبذ الدنيا وراء ظهره، وأقبل على ربه، رجل لا كالرجال ومعدن من المعادن النفسية، تأتيه الوفود من كل حدب وصوب، ابتغاء دعوة صالحة، ابتغاء رؤية وجه الصالح التقي النقي الكريم العفيف الطاهر نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحدًا.
الشيخ محنض باب ألف المباحث الفقهية وهو نظم لا مثيل له، تكلم على كثير من النوازل المعاصرة وهو يربو على ثمانية آلاف بيت وفيه كثير من الأمور التي لا غنى لطالب العلم عنها.
ألف في الزهد نظما قل نظيره ، سماه (سلم الضعاف المرتقين إلى درجات التائبين المتقين)، وهو نظم سلس عجيب لجماله، يزيد على تسعمائة بيت، وألف نظما سماه (إعانة الأعرج الكسير على معاناة متاعب المسير) وهو في الزهد والهروب من الدنيا ولا يقل شأنا عن سابقيه ثم نظمه الآخر كذلك ( النظم المتوسط المبين في أن الحائد عن الرشد غبين ) ولا يقل شأنا عن سابقيه إضافة إلى كثير من القصائد الدينية التي قل نظيرها
الرجل فتح الله عليه وأعطاه من فضله مع وسع الباع في العلم شيئا قل أن يوجد أو لا يكاد يوجد حفظه الله ورعاه وأطال عمره ونفعنا ببركته وفضله وأدامه كثيرا من الزمن في صحة وعافية دائمة إنه ولي ذلك والقادر عليه .