حضرت يوم أمس الورشة التي أقامها حزب الاتحاد من أجل الجمهورية حول الوحدة الوطنية والقضاء على كافة آثار الاسترقاق وكنت مقررا للجلسة التي تمثل سابقة فريدة من نوعها في تعاطي الأحزاب الحاكمة مع القضايا الحساسة مثل ذينك الموضوعين وكان من المداخلات الجريئة التي هزت القاعة وأثارت فيما بعد الكثير من الحبر على صفحات التواصل الاجتماعي مداخلة المفكر والعالم الجليل والأديب الفذ رئيس مجلس اللسان العربي بموريتانيا الذي يدين له البلد برمته بنشر تراثه وثقافته والتعريف به في وقت كان فيه نسيا منسيا في العالمين العربي والإسلامي وكان من جملة ما ذكره فيها ان موروثنا الإسلامي بحاجة إلى غربلة لأننا لم نفهم الإسلام ولم نفهم رسالته الحضارية وتحدث في هذا الجانب – من بين امور أخرى- عن الحاجة إلى تصحيح ثقافتنا الدينية والعناية بالمدرسة والقضاء على الفقه الميت وقال بأننا نحتاج الى مختصر خليل جديد خالي من الفقه الميت ويتعلق الأمر هنا بأحكام العبودية التي لم يعد لها -رسميا على الأقل- وجود في الدولة ولم يعد لتلك الأحكام ما يقابلها في الواقع
أنا أعرف مقدار الحرج الذي يسببه هذا التصريح لأصحاب النفوس المريضة الا ان هناك حاجة للتنويه إلى ان العالم الجليل والأديب النحرير الخليل النحوي إنما نحا في ذلك القول منحى كبار المفكرين والمصلحين في العالم الإسلامي المتحررين من أسر الجمود والتحجر مثل مالك بن نبي ولو كان لدينا علماء وفقهاء في جرأة العالم الجليل الخليل النحوي في نفاذ البصيرة و القدرة على المجاهرة بالحق دون ان تأخذه في ذلك لومة لائم لزالت آخر معاقل العبودية وآثارها والتي تتمثل في المظلة الايديولوجية التي يوفرها أغلب الفقهاء بالمصانعة والمداهنة للحكام والسكوت على الممارسات الخاطئة وآثارها الهدامة على وحدة المجت.مع وانسجامه
وكان الفيلسوف مالك بن نبي سباقا إلى إثارة هذه الفكرة في كتابه مشكلات الحضارة (وجهة العالم الاسلامي) قد ميز بين “الأفكار الميتة” و”الأفكار المميتة” وقال بأن نهضة أي امة من الأمم لا يمكن ان تحدث دون “تصفية الأفكار الميتة” والقضاء عليها، و”تنقية الأفكار المميتة”. والأفكار الميتة عند مالك بن نبي هي تلك الأفكار المستوردة المقتبسة من سياق وزمن حضاري مختلف وهي أفكار يتعاظم خطرها كلما انفصلت عن إطارها التاريخي أما الأفكار المميتة فهي الأفكار الناجمة عن” أشكال التقليد البالية” على حد تعبيره أي أفكار التحجر والجمود فهي وإن كانت صادرة من بنية الفكر الإسلامي ذاته إلا أنها في حقيقتها مناهضة للتطور الذي هو من أعظم السنن الكونية التي يقرها الدين والعلم على حد سواء
ففي الحالة الاولى، حالة الأفكار الميتة، تخضع المجتمعات والدول والحضارات لنفس القانون التي تخضع له البنية العضوية للكائن لأن المجتمع في حقيقته بناء عضوي وكائن حي؛ ومثلما ان نقل الدم من بنية عضوية إلى أخرى يقتضي توفر بعض الشروط وفي مقدمتها التوافق في فصيلة الدم، فكذلك هو نقل بعض الأفكار من سياق حضاري إلى آخر يقتضي وجود الحد الأدنى من التوافق في الزمن الحضاري حتى تكون عملية النقل ممكنة وآمنة وإلا كانت النتيجة عكسية
أما الأفكار المميتة فهي أكثر خطرا على الأمة من الأفكار الميتة لأنها تؤدي إلى انحلالها وزوالها لأن الكائن الحي وكل بنية عضوية مهما كانت تحتاج إلى التغير لكي تبقى ولكي تحافظ على وجودها، ومتى كف عن التطور والتغير والنمو كف عن الحياة وكان مصيره إلى زوال، وما الموت ان لم يكن استنفاد الخلايا الحية لقدرتها على النمو والتطور ؟ ومن ذلك الفقه الميت وأحكامه التي التي لم يعد لها مقابل vفي واقعنا فهذا أشد خطرا على الأمة من الأفكار الميتة لأن مثل هذه الأفكار والعقل الفقهي المرتبط بها لاتحرمنا من إمكانية النهوض فحسب بل تزرع بذور الفتنة والشقاق داخليا بين مكونات المجتمع، وتؤلب علينا الأعداء خارجيا؛ هذا ما يجعلنا بالفعل قوم خليليون ان ضل خليل ضللنا وهو ما يحدث الآن بعد ان تكلس العقل الفقهي عندنا وظل حبيسا لقوالب فقهية موروثة عن القرون الأولى فحق علينا قول مالك بن نبي بأننا “مجتمع انطمر ببقايا انحطاطه”