صحفي موريتاني يروي حادثة اعتقاله بتونس بسبب الصلاة في المساجد و قصة " الكسكس " التي نجا بها ..

خميس, 14/09/2017 - 08:58

روى الصحفي بقناة الموريتانية الزميل المميز أحمدو ولد اندهمر قصة اعتقاله في تونس أيام الدراسة بسبب زيارة المساجد و خصص ولد اندهمر ثلاث حلقات لسرد قصته و كيف نجا  و قد جمعنا لكم  النصوص من صفحة الزميل  حيث وجدنا أنها  تجربة تستحق القراءة لنتابع :

حدث في مثل هذا اليوم
" ملفات سرية"

في مثل هذا اليوم " 12 سبتمبر " من العام 1993 ،وفي حدود الساعة الثالثة بعد الظهر ،يُلقي ضابط الامن التونسي القبض على الطالب الموريتاني المقيم في تونس ،صاحب الإسم الحركي ولد دهمور أحمدو ،رقم بطاقة الطالب 115 ، البشرة ،سمراء
الشبهة : أربع جمعات متتالية في جامع يبعد عن محل إقامته أربعين كلمترا.
..التهمة: الانتماء لجماعة الإخوان المسلمين المحظورة..(يلبعر)
الحكم : مُستأنف الى يومنا هذا.....
التفاصيل...
في غمرة حملة الملاحقة ،وتضييق الخناق على بقايا جماعة النهضة في تونس ،ممن لم يسعفهم الحظ بمغادرة البلد ،أو اللجوء الى دول الجوار ،كان الطالب " ولد دهمور أحمدو ،الموريتاني الجنسية سنة ثانية بمعهد الصحافة وعلوم الأخبار ،يتردد كغيره من الطلاب الأجانب على الأسواق الشعبية للتّبضُع وإقتناء بعض الحلويات التونسية اللذيذة " كالمقروض ،وازلابية ،ولمخارق ، والتمور وغيرها من اللذائذ التونسية الشهية ، وفجأة صادفه مشهد" إنزال " كبير من عدد من الباصات البيضاء أمام أحد المساجد القريبة من السوق ،فقرر بفضول الطالب الصحفي المبتدىء ،أن يتبيّن الأمر ،ويتقصى الخبر من جميع جوانبه.....وتوصل فورا الى الحقيقة : إنه إنزال " مأدبة غداء الجمعة " التي يتكفل بها أحد المحسنين كل جمعة صدقة على ضيوف بيت الله في هذا اليوم العظيم....
فورا ،يقلب الطالب الموريتاني كل مشاويره ،ويترك التسوق ،وينضم الى الصفوف الأمامية ليشهد فضل " جمعة العمال" التي تتأخر عن الجمعة الرسمية بساعتين!!!
و " بمعدة " خاشعة ،وأمعاء متضورة يتابع الخطبة ، ويصلي خلف الإمام ، و فؤاده معلق بتلك المائدة الضخمة التي يجري تجهيزها ، لتكتمل مع تسليم الإمام والجماعة ....
و من حينه إكتشف الطالب الموريتاني ، أنه صادف فرصة العمر باكتشافه هذه المادئدة الباذخة بكسكها الشهي وأرزها ولحمها ،وغلالها ، وغيرها من مُسيلات لعاب طالب مغترب ....وقرر أن " يبايع" من توه هذ المسجد ،وأن يكون في مقدمة المصلين من كل يوم جمعة .....
مرت ثلاث جمع بسلام ، وأمان ، وفي الجمعة الرابعة ،وبعد سلسلة من التحريات ،والمتابعة ،إستدرجه ضابط أمن ِِبزي مدني في حديث حول المائدة عن هذا الجامع ،وخيّريه ، و عن خطبة الإمام ،وأثرها العميق في النفس ،وكان الضابط ، بدهاء رجل الأمن المحترف ،يبدأ له بعرض مشاعره الطيبة اتجاه المسجد وأهله ، و الطالب يجاريه بتلقائية عفوية في كل تلك المشاعر الإيجابية إتجاه المسجد مما لم يقع أو يحدث ، كي يتفرغ للوجبات ويستمتع بها ،الى أن استوفي الضابط كل تحقيقاته ،وعزّز كل شكوكه ،وسجّل الحوار كلمة بكلمة...!!!
ومباشرة بعد الحوار يد عو الضابط المحقق ، الطالب الساذج ،الى الخروج عن المسجد للتدخين ، والعودة بعد ذلك للمائدة ....و بلطفِِ تونسي أصيل ،قال له " سي أحمد ،أبْر بّي اشنوه قولك ،نتكيفو اشوي البره وانعاودو أنشدو بقعتنا"....
وما كانت إلا ،كلمة هو قائلها ، وكم هو مُرعبُُ ذلك البرزخ الذي ،سيفصل ولد دهمور أحمدو ، عن المسجد ، وعن المأدبة ،وعن الجامعة وعن الناس أجمعين......
يتبع.....
في الجزء الثاني ،موعدكم ،مع الشهامة التونسية ، وحبّ الموريتانيين المتأصل في قلوبهم ، وتعاطفهم الأسطوري مع الطالب المغترب.....
تحية لبلد سيبقى دوما في القلب ....

الحلقة الثانية :
....خرج الطالب الأعزل خلف "دليله "الذي كان يمسك بيده ، بحميمية مزيفة ،وسار وراءه يُهادى بين الطاولات ،والموائد الدسمة ،ولّمّا يُشف غليله من تلك الأطباق الفاتنة والباذخة ، وعند البوابة الخارجية للمسجد ،أزيح الحجاب عن الحقيقة المرة والصادمة...!!!!
وبنبرة جديدة ،وباعتداد كبير بالنفس ، يخاطب الضابط المدني ،الطالب ، قائلا معك الضابط ،فلان بن فلان ،ويقدم قائمة الوظائف الأمنية ،والإستخباراتية المكلف بها ، ويأمره بتقديم أوراقه الشخصية ،ويصطحبه الى الحافلة السوداء الرابضة قبالة المسجد ،ومن ثم الى" المركز "،
والمركز هنا في لغة أهل البلد آنذاك ، لايحتاج الى الإعراب، فهو قائم بذاته معنىََ ومبنىََ ،ويعني أولى محطات الآخرة والنهاية!!!
وينكفىء المسكين أحمدو على نفسه في ذهول شديد ، في ركن من تلك الحافلة المصفّحة ،وبصره حديد !!! ويبدأ في إستعراض شريط الذكريات ،والتعليمات التي قُدمت له من طرف قدماء الطلبة فور وصوله للبلد بخصوص حساسية المساجد ، وكل مايمت إليها بصلة، ولم يأبه للأسف بها ، ويستحضر حديث العم محمود أحد كبار " العساسين" ، عن "المركز " وفظاعته ، ويقول إن بوابته واحدة ،هي بوابة الدخول ، أما الخروج ،فإما إلى الجنة ،وإما الى النار !!! وغيرها من الكوابيس المفجعة ،ثم يعود ليعاتب نفسه ويؤنبها ، مستحضرا بيت الشاعر :
...وكم من أُكلة ،ِِ بلذة ِ ساعةِِ ......منعت أخاها أكلات دهرى...
شريط من الصور ، والأحداث والتصورات يتدفق بقوة ، مع تدفق عجلات الحافلة السريعة باتجاه الوجهة المقصودة .....طبعا، " المركز"
ولم يخاطب الضابطُ ، " المعتقلَ " أحمدو ، طيلة المشوار ، وكأنه غارق في تَخيُرِ نوعية التكريم ،أو الترقية التي سيحصل عليها بإيقاعه بأحدِ " منظري " الفكر الإخواني في المغرب العربي ،وشمال إفريقيا ،أو أحد " مُلهمي" حركة النهضة المحظورة ،أو أحد "رؤوس" خلاياها النائمة في تونس ( أهريوه)..(تَبْرٓ و يفشك ذاك)....
وماهي إلا لحظات حتى انعرجت الحافلة بزاوية حادة ، وتوقفت عند جذع بناية شاهقة ، والتفت ، ضابط الأمن الى المعتقل أحمدو ،وقال له :" هيا ،أهبطنا." و أردف :
..،إصحبني لنصعد إلى رئيس المركز ....
ورفع الطالب عينيه إلى أعلى ليقرأ بخط عربي غليظ وجميل " المركز" يالبعر ....!!!!!
....يتبع......
الحلقة الثالثة والأخيرة التحقيقات....

..بخطى متثاقلة ، وقلب وجلِِ ،وفرائصٓ ترتعش ،يعرُج المتهم أحمدو خلف قائده عبر سلم لولبي ،وشديد الإنحناءات في مِشية عسكرية ،سريعةِ الإيقاع وشديدة الركض الى الطابق الرابع ، حيث فصل الخطاب ، وحيث مكتب رئيس المركز....
وطيلة هذا المسار اللولبي الحاد النتوءات ،لم تمنع نوبة الغثيان والدُّوار القوية، المتهم أحمدو من أن يظل لسانه رطبا بالأدعية والأذكار الضارعة الى الحق سبحانه لكشف الغُمّة ودفع البلاء ،و إنهاء الكابوس....
وماهي الا لحظات ،حتى يصل " الخصمان" الى مكتب رئيس المركز ،وتبدأ المراسيم الفعلية للآخرة !!!!
وو سط غيمة سوداء من أدخنة سجائر" أكريستال" المحلية ، بالكاد يتبين المتهم أحمدو قسمات وجه ،مُضيفه ....
ومع انقشاع الغيمة شيئا فشيئا تبدأ ملامح المضيف أي رئيس المركز تتكشف ،وتبدأ مفردات المكتب تظهر ....
سلاسل فولاذية معلقة، وأصفاد حديدية شديدة البياض ،حادة " الأسنان" عالية الجاهزية واللياقة للعضِ على المعصم.....
يُسلم الضابط الوثائق الشخصية ،والتسجيل الصوتي للرئيس ،وينصرف....
يتمعن الرئيس في الأوراق ،ويقلبها ويُطالعها بالموازاة مع نظرات " فنية" ومحكمة على المتهم المتسمر في مقعده جامدا ،وباردا كالحديد في عز الشتاء....
ويتكرم الرئيس بأولى بنت شفة ::: انتِ موريطاني !!! نعم يجيب المتهم ...ثم ،يعود الى الأوراق ،ويضعها جانبا ،ويبدأ في الإستماع الى التسجيل.....
أين تسكن يسأل الرئيس ،يردو أحمدو في بنعروس ويضيف الرئيس ،هذا كلامك ، أنت أخوانجي ....يرد المتهم ،لا ليس كلامي ولست اخوانجي ، وبنبرة أقوى ، يردف الرئيس مالذي تقصد ،:: كيفاش مش صوتك هذا ؟ يرد المتهم بلى ! ،ولكنه لايُعتدُبه ،لقد سُجل مني وأنا تحت تأثير "سكر" مائدة الطعام ،ولم أكن صاحيا في تلك اللحظات ولامُركزا ، والآن أنا صاح ،واسمح لي بإعطائك الحقيقة ...رئيس المركز : باهي ياسر أتفضل خوي.....ويسرد المتهم روايته للأحداث ،وعلاقته بالمساجد ، كما علمه ربه....رئيس المركز : ما السبب في زيارة هذا المسجد الذي يبعد عن مكان إقامتك أميالا وأميال؟ المتهم السبب واضح وجلي وهو المشاركة في مأدبة غداء الجمعة....رئيس المركز : مالذي يعجبك فيها ...المتهم كسكسها ، وأرزها ،وبصلها وفومها،وعدسها وقثاؤها !!...رئيس المركز ::وخيال ابتسامة يلوح على وجهه: ....أتحب الكسكسي التونسي....نعم ،وأحب التونسيين يرد المتهم....
ثم يستعيد الرئيس نبرة التحقيق ، ويسأل المتهم أنت تصلي ،يرد المتهم : أحيانا !!! ،ثم يتراجع قليلا ،بإمكانك أن تعتبرني ؛ تقريبا لا أصلي ، نظرا للمشاغل الجمة ، والجامعة ،والمسافة الطويلة بين السكن ومكان الدراسة!!!( هو أتل خالگ الا لهروب)..
ثم يضيف لتعزيز حظوظه في النجاة ، وأضيفك معلومة حضرة الرئيس ،أنني مع إسلامي منفتح على الديانات الاخرى كدين نبينا عيسى وموسى عليهما السلام ،وأحفظ الكثير من الإنجيل ،والتوراة!!!
رىيس المركز ::: باهي هاتي سمَّعني أشوي من الإنجيل !!
المتهم::: ""ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان ،بل بكلمة طيبة تخرج من فم الرب """ سفر التكوين ،الإصحاح العاشر....إنجيل يوحنا....
باهي ياااااسر يقول الرئيس.. أنت خارق...!!!
وبحنكة الضابط المتمرس ، وصاحب الخبرة الطويلة في الميدان ، وبالقرائن المادية والمعنوية المتوافرة ، وبمكانة الموريتانيين في قلوب التونسيين ،يخلص رئيس المركز الى الإستنتاج التالي ، ويبُت في القضية ،وهذه المرة بنبرة أخوية ،وتعاطفية لم يسبق لها مثيل :
خوي أحمد ،الموريطانين ناس أملاح ، وأحن أنحبوهم ياسر ....وعندي لك ،وصية وطلب كأب وأخ أكبر حريص على مستقبلك: من الآن فصاعدا ، ابتعد ،كأجنبي عموما ، عن المساجد ،وعن موائدها ، والزم سبيل المحجة البيضاء هنا في تو نس. والتي لايزيغ عنها الا هالك.. بمعنى : من المسكن الى الجامعة ، أو دُورالتسليةِ والترفيه أوالتثقيف...،وأدعوك الى الصلاة فهي عماد الدين ،لكن في بيتك...مفهوم...مفهوم....
وإذا كنت مدمنا على الكسكي سأعطيك رقمي لتتصل بي متى ما شعرت بالرغبة فيه ، وأنا على أتم الاستعداد.،ويضحك ....
وبهذا الأسلوب المفاجىء ،وغير المتوقع ،من رئيس المركز ،وهذه العاطفة الصادقة ، "تنبجسُ"ُ دموع الفرح من " المتهم" ساخنة ، تحرق المآقي !! .....ورئيس المركز ، يواسيه ويُهدئه...."" لا ..لا.. لا...يا ولدي ، لا تقلق أنت في بلدك الثاني ، ونحن التوانسة نُجِلُ ونقدر المور يطانيين....سنطوي من توّنا هذا الملف في المهد ، ولن يُسجل ٱسمكم في المحضر !!
،ولاتخف ،وامرح وأفرح على طول ،لن يمسك أي أذى... اليوم ولا بعد غد !!!
وبهذا الإيقاع الناعم والودي ،نطوي معكم آخر صفحات ، " حدث في مثل هذا اليوم " من ملفات سرية..
....وتنتهي القصة ..
تحيةٓٓ ....وألف تحية لتونس ،ولشعبها العظيم.
ودام الودُ ، و التآخي ، الموريتاني التونسي.
أشكركم.....جميعا ....إخوتي أخواتي ،من هنا وهناك
والى الملتقى....

تصفح أيضا...